في لحظة سياسية تختلط فيها ملامح التغيير بالقلق، يبرز اسم زهران ممداني بوصفه أكثر من مجرد مرشح لرئاسة بلدية نيويورك. صعوده السريع والمفاجئ لا يمكن اختزاله في إطار المنافسة المحلية؛ إذ بات يمثل، على نحوٍ أو بآخر، مفترق طرق في السياسة الأميركية، وعنواناً لتحولات مركّبة تشمل البنية الحزبية، والتمثيل السياسي، وتجريب سياسات حضرية راديكالية، فضلاً عن إعادة رسم الخطوط الفاصلة في الطيف الإيديولوجي الوطني.
من الهامش إلى مركز القرار
ينتمي ممداني إلى جيل جديد من السياسيين الذين لا يأتون من رحم المؤسسة؛ بل من هامشها. شاب في مطلع الثلاثينيات، ولد في أوغندا لأبوين من أصول هندية، ونشأ مهاجراً مسلماً في أحياء كوينز. لم يدخل السياسة من بوابة المال أو النفوذ؛ بل عبر العمل الميداني، ومن داخل التيارات التقدمية القاعدية. ترشحه عن الحزب الديمقراطي ومواجهته لأسماء مخضرمة، أبرزها الحاكم السابق أندرو كومو، انتهت بانتصار مدوٍّ، اعتبرته الصحف الأميركية "زلزالاً سياسياً" في المشهد الانتخابي لمدينة نيويورك.
لكن قيمة هذا الفوز تتجاوز رمزيته المحلية. فممداني لا يحمل فقط مشروعاً حضرياً بديلاً؛ بل يحمل ملامح مشروع سياسي متكامل، يتقاطع مع تحولات أعمق في بنية الحزب الديمقراطي نفسه. صعوده جاء في لحظة انقسام داخلي في الحزب الديمقراطي بين الجناح المعتدل الذي يفضل الواقعية السياسية، والجناح التقدمي الذي يدفع نحو تغييرات جذرية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. فوز ممداني شكل دفعة معنوية لهذا الجناح، ورفع من سقف طموحات مناصريه على مستوى الولايات المتحدة.
نيويورك بوصفها مختبراً سياسيّاً
برنامجه الانتخابي لا يخلو من الجرأة: تجميد الإيجارات، توفير النقل العام مجاناً، إنشاء متاجر غذائية بلدية، رفع الحد الأدنى للأجور، وفرض ضرائب تصاعدية على الأحياء الثرية. هذه السياسات لا تطرح عادة في الحملات المحلية؛ بل تقترب في نبرتها من النقاشات الوطنية حول العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة. وفي حال فوزه وتطبيق هذه السياسات، ستتحول نيويورك إلى نموذج حضري تقدمي تتأمله مدن أخرى، إما لتكراره أو للتحذير منه.
ممداني نفسه يدرك أن المدينة قد تتحول إلى مختبر تجريبي لبرنامج يساري جديد. ربط قضايا مثل العدالة المناخية، والحق في السكن، والعدالة الضريبية، في ملف واحد، يكشف عن محاولة لصياغة مفهوم بديل للإدارة الحضرية، يواجه منطق السوق وسياسات التقشف القديمة. وإذا نجح هذا النموذج، فإنه قد يدفع بمدن أميركية كبرى أخرى نحو إعادة النظر في سياساتها.
ملامح أميركا القادمة
أما على صعيد الرمزية، فإن ترشح ممداني يحدث اختراقاً في نمط القيادة السياسية الأميركية. فهو ينتمي إلى أقليات دينية وعرقية، ويقدم نفسه بوصفه صوتاً لجيل جديد يشعر أنه أقصي طويلاً من دوائر القرار. تحالفاته لا تقتصر على نخب الأكاديميا أو الفئات المثقفة؛ بل تمتد إلى الطبقات العاملة، المهاجرين، والشباب الذين يرون فيه تجسيداً لقضيتهم وليس مجرد ممثل لها.
هذه القاعدة الواسعة والمتنوعة تحمل دلالات على تغيّر في البنية الديموغرافية للسياسة الأميركية، وتكشف أن "المدينة" لم تعد تتكلم بلغة واحدة؛ بل بلغات متعددة، تعكس عمق التنوع وتناقضاته في آن.
ومع كل هذا، فإن التحديات لا تقل حجماً عن الطموحات. فممداني لم يسبق له تولي مناصب تنفيذية، وبرنامجه الاقتصادي يثير حفيظة دوائر المال ومصالح العقارات. كما أن مواقفه من قضايا دولية، مثل دعمه العلني لفلسطين ونقده لإسرائيل، جرت عليه انتقادات حادة من الإعلام المحافظ، في مشهد يعكس إلى أي مدىً أصبحت الحدود بين المحلي والدولي متداخلة. نجاحه في إدارة المدينة سيكون اختباراً فعلياً لقدرة اليسار التقدمي على الانتقال من شعارات المعارضة إلى آليات الحكم، وفشله سيكون سلاحاً بيد خصومه لإغلاق هذا القوس قبل أن يتوسع.
في المحصلة، لا يمكن اختزال زهران ممداني في كونه مجرد مرشح لرئاسة بلدية نيويورك. هو ظاهرة سياسية تعبر عن مرحلة انتقالية في أميركا، وعن لحظة تشهد فيها النخب التقليدية تآكلاً تدريجياً في نفوذها، لمصلحة وجوه جديدة تمثل هوية وطن يتغير ديموغرافياً وثقافياً واقتصادياً. فإذا نجح في تطبيق رؤيته، قد يصبح نموذجاً لحكم تقدمي يحتذى به. وإذا فشل، فقد يستخدم كسلاح لضرب الحركات التقدمية الأميركية في مهدها. في الحالتين، الرجل بات جزءاً من المعادلة الوطنية، ومن معركة تحديد وجهة أميركا القادمة.
