سوريا على مفترق طرق: النموذج الليبي أم تثبيت استقرار هش؟

خاص - المدنالثلاثاء 2025/11/04
GettyImages-1248455758.jpg
الأشهر الثلاثة المقبلة ستكون محورية في تحديد مستقبل سوريا
حجم الخط
مشاركة عبر

في ظل تحوّلات إقليمية ودولية متسارعة، تجد سوريا نفسها أمام مرحلة حاسمة قد تحدد مصيرها لسنوات قادمة. 

فبين سيناريوهين متباينين: الأول يحذّر من انزلاق البلاد نحو واقع مشابه للوضع الليبي الممزّق، والثاني يرى أن عوامل جيوسياسية داخلية وخارجية تحول دون تكرار ذلك النموذج.

ويرى محللون أن الأشهر الثلاثة المقبلة، حتى نهاية عام 2025، ستكون محورية في تحديد ما إذا كانت سوريا ستنطلق نحو استقرار نسبي أو تبقى أسيرة جمود مفتوح.

 

السيناريو الليبي: هل هو وارد؟

يذهب بعض المراقبين إلى أن سوريا قد تتجه تدريجياً نحو تقسيم فعلي على غرار ليبيا، حيث تتوزع مناطق النفوذ بين فاعلين محليين وأجانب، وتبقى الحكومة المركزية رمزية أو محدودة الصلاحيات. 

ويستند هذا الرأي إلى استمرار تعقيدات الملفات العالقة، لا سيما ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي، وملف السويداء في الجنوب، اللذين لا يزالان يحملان مؤشرات توتر قد تنفجر في أي لحظة.

ويشير هؤلاء إلى أن غياب حلول جذرية لهذه الملفات، وعجز الإدارة السورية عن فرض سيطرتها الكاملة على كامل التراب الوطني، قد يرسّخ واقعاً انتقالياً طويل الأمد، تتقاسمه قوى محلية وإقليمية دون رؤية واضحة للمستقبل.

 

عوامل تمنع التكرار الليبي

إلا أن آخرين يرفضون هذا الاحتمال، مشيرين إلى اختلاف جوهري بين الحالتين السورية والليبية. ففي ليبيا، تتصارع دول إقليمية ودولية متعددة مثل: الإمارات، السعودية، مصر، تركيا، قطر، وفرنسا، كلٌّ بحسب أجندته الخاصة، ما يعمّق الانقسام ويجعل الحل السياسي شبه مستحيل. 

أما في سوريا، فيرى هؤلاء أن هناك اتفاقاً ظاهرياً، على الأقل، بين القوى الإقليمية على ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وعدم تحويلها إلى مصدر تهديد لأمن الجوار.

ويُعدّ الموقع الجيوسياسي لسوريا عاملاً محورياً في هذا السياق، فعلى عكس ليبيا، التي تبعد عن قلب الصراعات الإقليمية، تقع سوريا في قلب المواجهات بين إيران وتركيا وإسرائيل، ولها امتداد استراتيجي مع لبنان والعراق. 

وهذا الواقع يجعل أي تفكك رسمي أو فعلي للدولة مرفوضاً من قبل أطراف رئيسية، خصوصاً تركيا التي تربطها بمصير سوريا اعتبارات أمن قومي مباشرة.

 

دوائر نفوذ متنافسة ووكلاء متصارعون

وفي هذا السياق، قال ريتشارد وايتز، خبير الأمن والاستراتيجية العسكرية في مؤسسة ويكي ستراد - واشنطن، في حديثه لـ"المدن": "إن كثيراً من الناس، على الأرجح، لاحظوا التشابه بين ما يحدث اليوم في سوريا وما جرى في ليبيا على مدى العقد الماضي، بل وربما العقدين الماضيين: دوائر نفوذ متنافسة، وكلاء متصارعون، وانحسارٌ في السيادة".

وتابع: "لكن هناك فارقان رئيسيان: الأول أن سوريا تقع في جوارٍ أكثر خطورة وتحدياً بكثير من ليبيا، فالأخيرة محاطة بجيران ضعفاء نسبياً؛ فحتى مصر، رغم قوتها، لا تملك طموحاتٍ إقليمية في الأراضي الليبية ولا تهدّد باحتلالها، أما سوريا، فهي في قلب منطقة تحيط بها دول قد تسعى فعلياً إلى فرض سيطرةٍ مباشرة، إما عبر ضمّ أراضٍ أو عبر نشر جيوشها الوطنية داخل الأراضي السورية، والثاني أن المجتمع الدولي اليوم منخرطٌ بشكلٍ استثنائي في الملف السوري، وهذا الجانب الإيجابي، وطالما استمر هذا الانخراط، فإن لدى الحكومة المركزية في سوريا فرصةً حقيقية لإعادة فرض سلطتها، أما في ليبيا، فقد تخلّى الغرب عن مسؤولياته لفترةٍ بعد مقتل السفير الأميركي ووقوع أزمات أخرى، ما سمح بانهيار الدولة وفتح الباب أمام روسيا وقوى أخرى لإدخال قواتٍ وكيلة ومرتزقة بشكلٍ مباشر".

وأضاف: "لذا، رغم أن الوضع السوري ينطوي على تحديات أمنية وجيوسياسية أعمق، فإن هناك بصيص أمل، بشرط أن تظل الولايات المتحدة، وأوروبا، ودول الخليج، والمجتمع الدولي عموماً، فاعلين في موازنة القوى الجاذبة التي تهدّد وحدة الدولة السورية".

كذلك، يلفت محللون إلى أن الحكومة السورية الحالية، برئاسة أحمد الشرع، لا تزال تستند إلى سردية شرعية داخلية، وإن كانت محل جدل، مدعومة بخطاب طائفي يركّز على "المظلومية التاريخية"، وهو ما يمنحها قاعدة دعم داخلية لا يمكن تجاهلها، خصوصاً في مواجهة أي مشاريع انفصالية أو فدرالية.

 

من يقرر مصير سوريا؟

لكن الأهم، وفق آراء متعددة، هو أن مستقبل سوريا لم يعد يُحدّد فقط من الداخل، بل يرتبط بشكل مباشر بإرادة الفاعلين الخارجيين، خصوصاً الولايات المتحدة، فالعقوبات الاقتصادية، ووجود قوات أميركية في الشمال الشرقي، ودعم واشنطن لـ"قسد"، وتفاعلها مع الملف الإسرائيلي، كلها عوامل تمنح واشنطن نفوذاً حاسماً في توجيه مسار الأحداث.

وفي هذا السياق، يطرح محللون سؤالاً جوهرياً: هل تسعى القوى الدولية إلى دولة سورية مستقرة بما يسمح بإعادة الإعمار وجذب الاستثمارات، أم أنها تفضّل إبقاء البلاد في حالة "توازن هش" يضمن لها استمرار النفوذ وتقاسم المصالح؟

وفي هذا الصدد، قال الباحث في مركز الحوار للدراسات، نورس العبد الله في حديث لـ "المدن": "باعتقادي أن استشراف المستقبل السوري القريب اليوم لا ينفصل بتاتا عن الفلسفة التي تقف وراءه بمعنى مدى تغليب الشعور بالأمل أو اليأس وكل من هذين الشعوريين يجد شواهده في الواقع السوري".

وتابع: "بناء عليه أعتقد أن اعتبار السيناريو الليبي قادم لسوريا يقوم على أقصى درجات التفكير بالعوامل والشواهد السلبية كوجود قوة محلية مدعومة إسرائيلياً في السويداء، ووجود قوة عسكرية منظمة في شمال شرق يتمثل بقوات سوريا الديمقراطية، وكذلك وجود عسكري إقليمي ودولي في سوريا، وكل ذلك بالفعل يضعف من فكرة الحكومة المركزية المسيطرة والمتحكمة بكل التراب السوري ويفتح الباب أمام تطورات خطيرة كنموذج (مشروع حفتر)، لكن الوقوف بمزيد من التفاصيل والمقارنات يجعل من المرجح استبعاد هذا النموذج (الكارثي)، حالياً على الأقل، ومن أهم الأسباب أننا في سوريا أمام حكومة مركزية تنمو وتنتظم بسرعة، وتنطوي قيادة واضحة ومؤسسات عسكرية وأمنية قيد التشكل بوضوح مع وجود قبول شعبي واضح وإن كان نسبيا، بما في ذلك معظم القوى السياسية".

وأضاف: "في المقابل فإن الأطراف الأخرى التي قد تؤدي بوجودها لنموذج ليبي محتمل لا تقوم على أساس الفكرة التي نهضت بها أساسا القوى المناهضة للحكومة الليبية في طرابلس، أي أنها في مشاريعها خاصة ومحلية وليست وطنية من حيث الجوهر".

يضاف لما سبق، وحسب العبد الله، عامل واضح وهو البعد الدولي والنجاح الذي حققته دمشق في سياستها الدولية لجهة الاعتراف والمضي بقضية رفع العقوبات وتجنب الصدام مع محاور العالم، بغض النظر عن التفاصيل او التباطؤ في نقاط ما أو استمرار المخاطر الاسرائيلية.

وختم بالقول: "وعليه فإن النموذج الليبي صعب التكرار في سوريا مع وجود حاضنة شعبية وثورية صلبة من جهة، وانخفاض الاستقطاب الإقليمي على الاقل عما كان عليه في عام 2015، وبالتالي القراءة المتفائلة يمكن أن تبنى برأيي على عوامل إيجابية والتخفيف من ثقل ووزن العوامل السلبية لتفتيت سوريا، وهذا ما أرى أنه ضروري لمواجهة فكرة سوريا كدولة فاشلة وممزقة وضعيفة في الوعي العام على الأقل".

 

الاستقرار المشروط: السيناريو الأرجح

رغم التباين في التحليلات، يميل كثير من الخبراء إلى أن السيناريو الأكثر واقعية في الأشهر المقبلة هو ما يمكن تسميته بـ"الاستقرار المشروط"، أي بقاء الوضع على حاله مع تعديلات شكلية وتفاهمات موضعية تفرضها الوقائع الميدانية والحسابات الإقليمية، دون تغيير جذري في بنية السلطة أو توزيع النفوذ.

وفي هذا الإطار، يبقى ملف "قسد" والسويداء اختباراً حقيقياً لقدرة دمشق على إدارة التحديات الداخلية، بينما يظل الدور الأميركي العامل الحاسم في تحديد ما إذا كانت سوريا ستخرج من دائرة الجمود أو تُبقي في فخ التوازن الهش.

وقدّم الباحث الأكاديمي، الدكتور حمزة رستناوي، وجهة نظر مستبعداً فيها السيناريو المشابه للوضع في ليبيا.

وقال رستناوي في حديث لـ"المدن": لا يمكنالحديث عن المستقبل إلا بقدرٍ كبير من الاحتمالية وعدم التعيينإن الحديث عن سيناريو دولة مركزية ضعيفة لا تسيطر على معظم أو كامل الجغرافيا السورية هو حديثٌ سابقٌ لأوانه، فسوريا دولة صغيرة المساحة، وليست كليبيا أو السودان مثلاً، وتمتلك تقليداً للدولة المركزية لعقود طويلة، كما لا توجد فيها كثافات لمناطق تجمعٍ فئوي قومي أو طائفي تُمكِّن من الانفصال أو قيام كيان سياسي مستقر دون تدخلٍ وحمايةٍ مباشرة من قبل قوى خارجية مُهيمنة".

وأضاف: "يرجّح بعضهم استمرار وجود كيان كردي في الجزيرة السورية، وكيان درزي في السويداء، أو كيان علوي، أو منطقة عدم استقرار في طرطوس واللاذقية، ولكن ليس من مصلحة دول الإقليم استمرار هذه الكانتونات باستثناء إسرائيل لتجنب عدوى الانفصال، فالحكومة السورية برئاسة أحمد الشرع تمتلك شعبية قوية لاستعادة الجغرافيا السورية، خصوصاً في الجزيرة حيث يشكل العرب السنة نحو ثلاثة أرباع السكان، ما يجعل تجربة قسد مختلفة عن إقليم كردستان العراق الذي يتمتع بكثافة سكانية كردية واتصال جغرافي".

ولفت إلى أن الوجود الكردي في سوريا موزع، وأكبره في دمشق وحلب، وهناك مصلحة تركية وسعودية في بقاء سوريا موحّدة، والحفاظ على بعدها العربي والتركي يساعد في استعادة المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة. وجود قسد يعتمد على فيتو أمريكي وليس على قوتها الذاتية، وفق تعبيره.

وتابع: "في السويداء، بدأ الطرح الانعزالي للشيخ الهجري بعد سقوط النظام الأسدي، بحثاً عن زعامة درزية بالتنسيق مع إسرائيل والشيخ موفق طريف، وبالتالي فإن تغيير الوضع ممكن عبر صفقة مع إسرائيل، لكنها ستكون مذلّة وغير عادلة بسبب اختلال موازين القوى".

ورأى أن السيناريوهات الممكنة:

  1. استمرار الوضع الحالي وتجميده، مناسب للبعض لكنه يكلّف الدروز ثمناً باهظاً تحت سلطة زعامات محلية وفصائل غير متسامحة، ولا يعيق مشروع تعافي سوريا نظراً لموقع السويداء الطرفي.

  2. صفقة مع إسرائيل تضمن منطقة منزوعة السلاح جنوب دمشق، واستعادة الدولة سلطتها مقابل ضمانات بعدم انتقام عنيف ضد الدروز، احتمال وارد.

  3. استثمار إسرائيلي للدروز لتشكيل كيان عازل على الحدود، قد يتطلب تهجيرهم جزئياً أو كلياً إلى الجولان والداخل الإسرائيلي، مما يخلق كيانات طائفية وظيفية تخدم المشروع الصهيوني.

واعتبر أن الاستقرار في سوريا مرتبط بنموذج حكم كفء مع حدّ مقبول من المشاركة السياسية، ليس ديمقراطية كاملة، بل دولة مستقرة بمعايير الشرق الأوسط، دولة قانون لا تميّز بين السوريين تكون أقوى، والقبول الشعبي والتنمية الاقتصادية المتوازنة يدعمان الاستقرار.

ولفت إلى أن التوافقات الدولية التي سمحت ببقاء الحكم الحالي قادرة على استعادة وحدة الأراضي والانتقال إلى استقرار أفضل.

ورأى أن: سوريا خالية من الإرهاب، وغير مُصدّرة للاجئين، ولا تهدد إسرائيل، هي ملامح المنظور الغربي لسوريا، وأهداف ممكنة ضمن وحدة الدولة والأراضي، وفق وجهة نظره.

ووسط كل ذلك، فإن ما يجري اليوم في سوريا، إذن، ليس مجرد صراع على السلطة أو الأرض، بل معركة على الزمن، حيث تُكتب في الأشهر الثلاثة المقبلة فصول مصيرية قد تحدد ما إذا كانت البلاد ستتجه نحو إعادة البناء أو تكرار تجربة الدول الممزقة.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث