التصعيد الأميركي–الفنزويلي: تهديدات جديدة وعسكرة الكاريبي

المدن - عرب وعالمالاثنين 2025/11/03
Image-1762179899
ضغوط أميركية أم تمهيد للتدخل قراءة في أحدث فصول الصراع مع فنزويلا(Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

 

تتسارع التطورات بين الولايات المتحدة وفنزويلا على نحو يعيد رسم مشهد الصراع المفتوح منذ أكثر من عقدين، في ظل تصعيد أميركي جديد ترافق مع رسائل عسكرية وسياسية تحمل إيحاءات بتغيير قواعد الاشتباك. 

خلال الأسابيع الأخيرة، بدا واضحاً أن واشنطن تذهب إلى أبعد من سياسة العقوبات التقليدية، نحو مقاربة هجينة تمزج بين الضغط العسكري والدبلوماسية الواقعية، فيما ترد كاراكاس بخطاب تعبوي واستقطاب لحلفائها الدوليين.

 

أيام مادورو معدودة

وفي أحدث موقف، صعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لهجته تجاه فنزويلا، معتبراً أن "أيام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو باتت معدودة"، رغم استبعاده في الوقت الراهن خيار الحرب الشاملة داخل الأراضي الفنزويلية. التصريح بدا كإشارة مزدوجة: استمرار مشروع الضغط لإسقاط النظام الفنزويلي، مقابل ضبط السقف العسكري وعدم فتح جبهة مباشرة واسعة، إلا إذا توافرت ظروف "عمل خاطف محسوب".

وجاءت تصريحات ترامب في ذروة نقاش داخلي أميركي حول نية الإدارة اعتماد مبدأ "الضربة الوقائية المحدودة" ضد أهداف داخل فنزويلا، بذريعة مكافحة شبكات تهريب المخدرات، وهي الذريعة التي استخدمتها واشنطن أخيراً لتبرير تحركات بحرية وجوية مكثفة في منطقة الكاريبي.

 

انخراط عسكري أميركي متسارع

وترافق التصعيد السياسي مع تطور ميداني لافت. فقد دفعت الولايات المتحدة بقوة بحرية إضافية إلى البحر الكاريبي، شملت مدمرات وسفناً للإنزال وطائرات استطلاع، بالتوازي مع عمليات استهداف قوارب يُزعم أنها تابعة لشبكات تهريب مخدرات مرتبطة بضباط في الجيش الفنزويلي. ورغم أن واشنطن تجنبت إعلان مسؤوليتها عن كل العمليات، فإن المؤشرات العسكرية أوحت بأن إدارة ترامب تمهد لفرض طوق ردع بحري حول فنزويلا.

وأثارت هذه التطورات قلق كاراكاس، التي اعتبرت أن الولايات المتحدة تمهد لعمل عسكري مباشر أو غير مباشر من خلال توسيع "الحرب على المخدرات" لتكون مظلة قانونية–إعلامية لتدخل ميداني. وفي السياق، اتهمت فنزويلا واشنطن بالتحضير لـ "عملية علمٍ زائف (False Flag)" بهدف خلق ذريعة للتصعيد، في خطاب يعكس حالة استشعار للخطر ومحاولة لشد العصب الداخلي.

 

أزمة إقليمية وتموضع دبلوماسي

ولم يقتصر التوتر على البعد الثنائي، بل تمدد نحو منحى إقليمي، بعدما أعلنت كاراكاس رئيس وزراء ترينيداد وتوباغو "شخصاً غير مرغوب فيه"، متهمة حكومته بدعم مواقف أميركية تستهدف فنزويلا في الكاريبي. الخطوة عكست توتراً متعاظماً في محيط فنزويلا المباشر، وهو محيط تسعى واشنطن إلى استثماره في سياسة "العزل الإقليمي" لإضعاف مادورو.

في المقابل، تحركت فنزويلا على خط علاقاتها مع روسيا والصين وإيران، في محاولة لاقتناص ضمانات ردع سياسية أو تكنولوجية، مع طلب دعم دفاعي إضافي يشمل منظومات رادار وصواريخ دفاع جوي. هذه الاتصالات تكشف أن كاراكاس تستعد لاحتمال تصعيد طويل الأمد، وأنها تعول على مظلة دولية مشابهة لتلك التي دعمت نظامها خلال مواجهة إدارة ترامب عام 2019.

 

من التصعيد الحالي إلى جذور الأزمة

ورغم أن التطورات الراهنة تعيد التوتر إلى الواجهة، إلا أن جذور الصراع تعود إلى بداية عهد الرئيس الفنزولي الراحل هوغو تشافيز في أواخر التسعينيات. فمنذ 1999، اتخذت العلاقة مساراً صدامياً بين مشروع تشافيز الاشتراكي–البوليفاري، الذي قدم نفسه كامتداد للمد اليساري في أميركا اللاتينية وكقوة مناهضة لـ "الهيمنة الأميركية"، وبين واشنطن التي رأت في سياساته تهديداً لمصالحها الاقتصادية والأمنية في نصف الكرة الغربي.

وبلغ الخلاف ذروته مع تأميم تشافيز لشركات النفط الأميركية في بلاده، وتحول "الذهب الأسود" إلى محور المواجهة. ففنزويلا تمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، وكان نفطها لعقود مصدراً رئيسياً للمصافي الأميركية. لكن كاراكاس حولت العائدات النفطية إلى أداة نفوذ سياسي داخلي وخارجي، ما اعتُبر في واشنطن محاولة لكسر النفوذ الأميركي في منطقة تعتبرها تاريخياً مجالاً حيوياً.

ومع وصول نيكولاس مادورو إلى الحكم عام 2013، بعد وفاة تشافيز، تدهور الاقتصاد الفنزويلي بفعل سوء الإدارة والفساد والعقوبات المتبادلة. لكن نقطة الانفجار الكبرى جاءت عام 2019، حين اعترفت واشنطن ومعها عشرات الدول بزعيم المعارضة خوان غوايدو "رئيساً شرعياً مؤقتاً"، متهمة مادورو باغتصاب السلطة وتزوير الانتخابات، فيما عدت كاراكاس الخطوة محاولة انقلاب مدعومة أميركياً.

وفي ذروة تلك المرحلة، ألمح ترامب إلى احتمال "خيار عسكري" لإسقاط مادورو، فيما فرضت واشنطن حزمة عقوبات هي الأشد في تاريخ فنزويلا طاولت النفط والبنك المركزي ومسؤولين كباراً، ووصلت إلى حد تخصيص مكافأة مالية لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال مادورو بتهم تتعلق بتجارة المخدرات. غير أن نظامه صمد مستنداً إلى الجيش وأجهزة الأمن ودعم موسكو وبكين وطهران وأنقرة، بينما تراجعت المعارضة وانقسمت.

 

عودة الصراع تحت سقف مختلف

الآن، يبدو أن المرحلة الجديدة من المواجهة تحمل تعديلات مهمة. فواشنطن لا تطرح إسقاط النظام فقط، بل تسوق المسار عبر عنوان "تجفيف تمويل المخدرات" و"ضبط الأمن القومي الأميركي" في الفناء الخلفي للولايات المتحدة. هذه المقاربة تمنح الإدارة غطاءً داخلياً وخارجياً للتحركات المحدودة، من دون الانزلاق إلى حرب مفتوحة مكلفة.

في المقابل، تروج فنزويلا روايتها بأن واشنطن تسعى للسيطرة على نفطها وإعادة تشكيل الخريطة السياسية في أميركا اللاتينية، في اللحظة التي تستعيد فيها موجة اليسار بعض نفوذها في القارة. وبين هاتين السرديتين، تتأرجح المنطقة فوق احتمالات مفتوحة: من التصعيد الخاضع للرقابة، مروراً بحرب محدودة، وصولاً إلى تسوية دبلوماسية تقي واشنطن كلفة الانخراط العسكري المباشر.

ويشي المشهد الحالي بأن الكاريبي قد يكون أمام فصل جديد من "الحرب الباردة المصغرة" بين واشنطن ومحور داعم لكاراكاس، في ظل توازن حساس بين الضغط العسكري والسياسي. ورغم أن العودة الشاملة لسيناريو 2019 ليست محسومة، فإن التطورات الأخيرة تشير إلى أن الصراع الأميركي–الفنزويلي دخل مرحلة أكثر حدة، عنوانها "إعادة رسم قواعد الاشتباك"، في معركة تتجاوز فنزويلا نفسها إلى الموقع الجيوسياسي للولايات المتحدة في النصف الغربي من العالم.

 

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث