لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الرئيس الصيني شي جينبينغ، الذي جرى في مدينة بوسان الكورية الجنوبية، ليس تفصيلاً في الحياة الدولية الراهنة، ذلك أن اللحظة السياسية التي يمرُّ بها العالم استثنائية، والمخاطر تُحيط بالاستقرار العام من كُل حدبٍ وصوب، واحتمالية تفلُّت الأوضاع؛ خيارٌ قائم، والزعيمان الكبيران لم ينفيا وجود تباينات بينهما، كما أنهما نبها من خطورة استمرار الحرب في أوكرانيا، ومن عودة السباق المحموم نحو مزيد من التسلُّح.
منذ قمة مجموعة شنغهاي التي انعقدت مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي؛ بدأت العلاقات بين الدول الكبرى تنحو بإتجاه التوتر، وبرزت اصطفافات محورية نووية جديدة، تُشبه استقطابات مرحلة الحرب الباردة التي كانت قائمة قبل العام 1990، وبدا العالم منقسماً بين معسكرٍ شرقي يجمع دول وازنة، وبينها قوى نووي كبرى كالصين وروسيا وكوريا الشمالية، ومعسكر غربي تقوده الولايات المتحدة ومعها حلفاء يملكون قدرات نووية أيضاً. وحسناً فعل الرئيس ترامب ببراغماتيته الخاصة في فكفكة الاحتباس السياسي الذي ظهر بعد قمة شنغهاي، عبر اتصاله الهاتفي الطويل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وفي تصميمه على لقاء الرئيس الصيني جينبينغ، وإعلان استعداده للقاء رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، بالرغم من أن جزء من هذه المروحة الدبلوماسية الترامبية كانت تهدف لإنتاج حالة من الشكوك بين الحلفاء الشرقيين، أكثر مما هدفت الى تسوية الملفات الساخنة.
مباحثات ترامب-جينبينغ كانت تجارية بالعلن على ما صرَّح الأول بعد اللقاء الذي دام 100 دقيقة، وقد توصَّلا بالفعل إلى اتفاق على خفض الرسوم الجمركية الأميركية على الصادرات الصينية من 57% الى 47%، كما جرى التفاهُم على ملف المعادن النادرة والرقائق الالكترونية فائقة التطور. لكن الواضح أن القمة من حيث الشكل ومن حيث المضمون؛ كانت سياسية وأمنية بامتياز، وغلبت على مناقشاتها تداعيات الحرب في أوكرانيا، وما يتفرَّع عنها من توترات قد تؤدي الى حروب كبيرة، لا سيما بعد اعلان الرئيس الروسي عن تجارب على صاروخ باليستي يعمل بالوقود النووي، ومداه يتجاوز 14 ألف كيلومتر، ورد الرئيس ترامب على هذا الإعلان بالإيعاز لوزارة الدفاع "البنتاغون" تفعيل التجارب العسكرية النووية، وهو كشف عن تمركُز غواصة أميركية تحمل صواريخ نووية بالقرب من السواحل الروسية.
سياسة الكرّ والفرّ التي اعتمدها ترامب منذ وصوله الى البيت الأبيض في تعامله مع القوى الكبرى؛ فيها أهداف مُعلنة، وتحمُل مقاصد غير مُعلنه. وهو يحاول بشتى الطرق تفريق الالتصاق الاستراتيجي بين روسيا والصين، فحيناً يندفع نحو موسكو التي عاملها كشريك قبل قمة مجموعة شنغهاي، وعقد مع بوتين لقاءً مطولاً في ولاية ألاسكا منتصف آب/ أغسطس الماضي، وأجرى عدة اتصالات هاتفية معه. وحيناً آخر يلتفت نحو الصين لإغرائها بمجموعة من الحوافز التجارية لجعلها تميل نحو تخفيف حدَّة الترابط النفطي والعسكري مع روسيا، وهو يرى أن تعاون روسيا مع الصين يُشكل العقبة الأساسية أمام الاندفاعة الأميركية، والوثبة الصينية التكنولوجية والصناعية، تُهدد مستقبل النفوذ الأميركي المُتميِّز على المستوى العالمي.
من المؤكد أن الإعلان عن زيارة سيقوم بها جينبينغ الى الولايات المتحدة قريباً، وزيارة لترامب الى الصين في نيسان/ أبريل المنقبل؛ ترك أثراً مُريحاً في الأوساط الدولية، وقلَّص من منسوب الخوف من قُرب وقوع صدامات غير محسوبة بينهما حول تايوان، أو في بحر الصين الجنوبي، لأن وتيرة المناورات العسكرية بين واشنطن وحلفائها في شرق وجنوب آسيا تزايدت في المدة الأخيرة. لكن منسوب الخوف نفسه ارتفع الى حدود متقدمة على الضفة الأخرى؛ أي بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، واستعراض القوة الحاصل بين الفريقين لم يسبق له مثيل منذ مُدة، وهو يزيد عما كان عليه أيام الحرب الباردة، ويكفي الإشارة الى ظهور الرئيس الروسي عدة مرات خلال الأسبوع الفائت بلباس عسكري يتفقد الوحدات النووية والهجومية، لتأكيد الاستنفار القائم.
يبدو أن الاتصال الهاتفي الأخير بين ترامب وبوتين لم يفعل فعله لناحية فتح صفحة تعاون جديدة بين موسكو وواشنطن وبما يُغيظ بكين. وحلفاء ترامب الأوروبيون لا يتعاونون بما فيه الكفاية معه، ومُتمسكون بعدم السماح للرئيس بوتين بالخروج منتصراً من حربه في أوكرانيا. و"ميكيافيلية" ترامب البارعة؛ لم تنجح في فرض اعتراف الآخرين باستفراده، والظهور كأنه وحده مَن يُدير العالم. والرئيس الأميركي الذي يُفاخر بكون بلاده هي الأكثر تطوراً في العالم في مختلف المجالات، بما في ذلك بالسلاح النووي؛ ليس لديه نية لإشعال حروب كبيرة مهما كانت نتائجها، كما ليس لديه القدرة على إدارة هذه الحروب لأنها ستستهلك كامل الوقت المتبقي له في الحكم، ووقوعها يشكل مغامرة قد تُطيح بكل رصيده.
موسكو تقول إنها ما زالت على استعداد للتعاون مع واشنطن، وبكين ترى أن التعاون مع واشنطن فيه فائدة للبلدين العظيمين وللعالم، وواشنطن تُرحب بالتعاون مع الجميع، وفي كل هذه المواقف إيحاءات ممتازة. لكن هل المُعلن يتطابق مع النوايا الخفية؟
