دخلت سوريا بعد سقوط نظام الأسد مرحلة انتقالية شديدة الاضطراب، اتّسمت بالارتجال المؤسسي العسكري، وتبدّل خطوط المواجهة، وإعادة تشكيل الاقتصاديات غير المشروعة القائمة على التهريب وغسيل الأموال لمصلحة شبكات تهريب واسعة النفوذ. لفهم كيفية تداول الأسلحة داخل سوريا وحولها بعد هذا التحوّل، لا بد من النظر زمنياً إلى كيفية تشكّل شبكات الإمداد بين عامي 2012 و2017؛ أي عندما بلغت العمليات العسكرية ذروتها في سوريا، وكيف تكيفت في منتصف الحرب، وكيف غيّر مشهد ما بعد الأسد عمليات التهريب خلال عام 2025 وتبديل الحوافز والمسارات وإشارات السوق ذات الصلة.
من السرية إلى سلاسل التوريد الهجينة
تشكّل الهيكل الرئيس لاقتصاد تهريب السلاح السوري في مرحلة ما بعد الأسد، في الفترة بين 2012 و2017؛ إذ جرى شراء كميات ضخمة من الأسلحة الخفيفة والذخيرة ذات النمط السوفياتي من أوروبا الشرقية والبلقان، ونقلها عبر تركيا والأردن إلى فصائل المعارضة المسلحة داخل سوريا إما عبر شبكات تهريب قديمة كانت تعرف الطرقات ومداخل المدن الجنوبية بعيداً عن أعين جهاز المخابرات السرية و حرس الحدود، وفي حالاتها الأفضل عبر التنسيق معها عبر شراء فساد ضباطها. وقد موّلت برامج خارجية متعددة، بعضها سري وبعضها علني، عمليات الشراء والنقل، في حين أضافت مشتريات البنتاغون حجماً إضافياً للسوق حيث ساهمت "غرفة موك" برفع وتيرة التهريب بين سوريا وفصائل المعارضة السورية المسلحة حينها، و أغرقت السوق بأنواع أسلحة وعيارات لا حصر لها، و باتت سوريا مرتعاً لشركات التسليح لتجريب سلاحها على ارض حرب ميدانية. وبحكم الحجم الكبير، حدث تسرب هائل نحو السوق السوداء، عبر البيع الجانبي أو الغنائم الميدانية أو الرِّشى، وهذا ما أوجد منظومة تهريب ومستفيدين مستدامة تفوقت على عمر رعاتها الأصليين.
في المقابل، استخدمت إيران الأراضي السورية ممراً دائماً نحو لبنان لتزويد حزب الله بأسلحة خفيفة ومتوسطة وصواريخ مضادة للدروع ومكونات مساعدة؛ وهذا المحور البري تكيّف مع تغيّر مستويات الرقابة الحدودية، متنقلاً أحياناً إلى المسارات الجوية أو البحرية قبل أن يعود إلى الطرق البرية والأنفاق. وبحلول منتصف العقد الثاني، تحوّلت سوريا إلى دولة عبور ، وجهة ومستودع ومنصّة انطلاق في آنٍ واحد.
كما أضاف تنظيم "داعش" طبقةً أخرى من التعقيد؛ إذ أظهرت الوثائق الميدانية في ذروة تمدده آلاف الأسلحة القادمة من مخزونات حكومية أو من مصادر خارجية، سواء عبر الشراء من وسطاء أو الغنائم اللاحقة للمعارك أو لخيانة ضباط جيش الأسد وبيعها لهم؛ إذ أن بعض الصواريخ المضادة للدروع وصلت إلى يد التنظيم خلال أشهر من دخولها الميدان، وهو ما يعكس سرعة تداول السلاح بمجرد تفكك الجبهات.
جغرافيا التهريب
مع نهاية العمليات العسكرية في سوريا، تبلورت في الميدان أربعة محاور رئيسة للتهريب، كل واحدة منها ذات خصوصية جغرافية ولوجستية وسياسية تميّزها عن غيرها. وأدّى سقوط النظام إلى فوضى مؤسسية فورية؛ فخطاب تفكيك الأجهزة الأمنية وإعادة الهيكلة، مع إعادة تموضع القوى المحلية، خلق بيئة مثالية للتسرب: مستودعات من دون رقابة، قادة يبيعون مخزونهم بوصفه ضماناً، وسماسرة يختبرون حدود السيطرة الجديدة. وشدّدت الدول المجاورة رقابتها، خصوصاً الأردن، الذي أعلن عن زيادة في عمليات التهريب باستخدام الطائرات المسيرة الصغيرة. كما كثّفت تركيا مداهماتها ضد خلايا "داعش" ومخازن الأسلحة في الشمال، في حين عزّز العراق تحصين معبر القائم-البوكمال. أما على محور لبنان، فقد بقيت عمليات نقل الأسلحة الموجهة متقطعة وخطرة بسبب الضربات المتبادلة.، وضربات إسرائيل لأيّة عمليات تهريب بين البلدين بوصفها خطراً وجودياً على مستوطنات شمال الأراضي المحتلة.
أول هذه المحاور هو المحور السوري-اللبناني الممتد بين القلمون والبقاع الشرقي والقصير، الذي تحوّل إلى حوض تهريبي متعدد السلع، يستقبل ويعيد توجيه وقوداً ومخدرات وذخائر وقطع سلاح على نحو متداخل. يستفيد الفاعلون من تضاريس القلمون الجبلية وشبكة القرى المتداخلة لإخفاء الحمولات وإعادة تسفيـرها إلى وديان البقاع؛ حيث هناك تعمل وسائط النقل المحلية ووسطاء محليون مرتبطون بأحلاف سياسية وطائفية لتسهيل العبور. العلاقة مع شبكات المهربين اللبنانية متجذرة سواء عائلياً او مادياً؛ إذ يوفِّر الطرف اللبناني سوقاً مبادِلاً وممرّات لإعادة تصدير البضائع، في حين ترفع دوريات الأمن والدفاع الجوي مستوى المخاطرة فتؤدي إلى تدوير أساليب النقل ليلاً، أو عبر طرق فرعية، أو بعبور بحري مقتصد إلى قبرص وأوروبا.
أما القوس الجنوبي فيشمل ريف دمشق الغربي والقنيطرة ودرعا والسويداء نحو الأردن، ويتميز هذا القوس بحرية حركة نسبية بالرغم من تكرار الاشتباكات وعمليات الاعتراض و توع المستفيدين على هذا الخط من عشائر وشبكات تريب تقليدية وسكان محليين، وهو من أكثر المحاور مرونة في التكيّف. تراوح مهربو السلاح هنا بين استغلال القوافل التقليدية ودمج الشحنات مع شحنات تجارية أو مخدرات لتشتيت الانتباه؛ لذلك كثيراً ما يُكتشف السلاح مصحوباً بمواد أخرى. كذلك لعبت المشهدية القبلية والولاءات المحلية دوراً محورياً في توفير ملاذات مؤقتة وتسهيل التنسيق مع شبكات العبور الأردنية إلى الخليج او الأراضي الفلسطينية المحتلة أو الأسواق الداخلية، في حين أدت حملات الضبط المتقطعة إلى ارتفاعات مؤقتة في الأسعار وابتكار تكتيكات لخفض البصمة الأرضية، مثل الرحلات الجوية القصيرة باستخدام طائرات مسيرة صغيرة.
المحور الثالث يمتد بين البوكمال السورية والقائم العراقية؛ وهذا المحور كان العمود الفقري اللوجستي الذي يربط مناطق نفوذ ميليشيات متعددة على جانبي الحدود العراقية السورية، فخُصّص لنقل المواد الثقيلة والمكونات الفنية وصيانة المعدات. تتحكم فيه مجموعات محلية وميليشيات إقليمية متناوبة، ويعتمد على سلسلة من نقاط التفريغ والورش التي تُعيد تجميع الشحنات قبل إرسالها داخل الأراضي السورية أو إلى العراق. لهذا المحور طابع أكثر طائفية وصناعية من غيره؛ إذ تعمل عليه الشبكات الشيعية وفيه مستودعات، نقل بضائع ثقيلة، ووجود وسطاء تجاريين يلعبون دوراً في تلميع سلسلة التوريد وشرعنتها ظاهرياً عبر معاملات ووثائق مزورة أو متواطئة مع حرس الحدد من الجانبين السوري أو العراقي.
أما المحور الشمالي فيمتد بين حلب وإدلب وهاتاي/ كيليس؛ وهذا المحور هو بوابة دخول المقاتلين والمعدات من وإلى تركيا؛ ويتميز بقربه من موانئ وخطوط إمداد إقليمية. مع تصاعد الحملات التركية ضد خلايا الأكراد وتشديد الرقابة على المعابر، تقلصت حركة الشحنات الكبيرة، لكن بقيت شبكات خلوية صغيرة تنشط في تهريب الأسلحة الخفيفة، المناظير، أجهزة الاتصالات والذخائر بكميات محدودة. اعتمد المهربون هنا على طرق التفاف عبر مناطق سيطرة فصائل محلية وفصائل من المهاجرين الأجانب ( الأوزبك و الفرنسيين)، وخلط الشحنات عبر أنفاق أو حِيل لوجستية قصيرة المدى، وهذا ما جعل تكاليف العبور والالتزام بسرية المسار أعلى لكن مع قابلية استمرارية بسبب الطلب المحلي والإقليمي.
اقتصاد التهريب ومصادر القطع
اعتمدت الشبكات على تعدد الوسائط لتفادي الرقابة، فكانت القوافل البرية تسلك طرقاً فرعية، وتخلط البضائع غير المشروعة بالمشروعة، وتستخدم منازل آمنة على الحدود ومتسلسلة لتقسيم الشحنات. وعندما تُغلق الحدود، كانت الرحلات الجوية أو البحرية من دول ثالثة تُستخدم بوصفها حلاً مؤقتاً قبل العودة للتوزيع البري داخل سوريا. أما الوسط البشري فشمل وسطاء قَبليين، وعناصر أمن فاسدين، ووكلاء تجاريين مرتبطين بشبكات البلقان، وهذا ما جعل المنظومة متماسكة بفضل الحماية السياسية والخبرة المحلية.
كانت السلع المتداولة شبه ثابتة بدءاً من بنادق كلاشينكوف التقليدية ، ورشاشات "PKC" و"PKM"، ورشاشات "دوشكا" و"جي أس إتش-6-30" التي تُحمل على سيارات الدفع الرباعي، قواذف "RPG-7"، قذائف هاون بعيارات 60 و82 و120 ملم، وقنابل يدوية، و"M16" و قناصات الكترونية و حرارية و قناصات من طراز "دوشكا 14.5"؛ إضافة إلى و مسدسات "TT" و"ماكاروف" ومسدسات من طراز "MP443"، و"GSH18".
أما الصواريخ الموجهة مثل "كورنيت" و" كونكورس" و"تاو "، فأصبحت تظهر على نحوٍ دائم بوصفها أسلحة معدّة للتهريب، لا سيما أنها عالية التأثير، إضافة إلى صاروخ "إيغلا" أرض-جو روسي الصنع ويحمل على الكتف، موجه بالأشعة تحت الحمراء ويزن 17.9 كلغ، وهذا السلاح من مخلفات نظام الاسد و موجود بكميات كبيرة في كتيبة الدفاع الجوي في منطقة كناكر في ريف دمشق؛ حيث عثرت إدارة الأمن العام على كميات منه معدة للتهريب إلى لبنان مع جماعات خارجة عن القانون؛ إضافة إلى معدات مساعدة مثل المناظير الليلية وأجهزة الاتصال المشفرة التي كانوا يستخدمونها في المنطقة الجنوبية الغربية من ريف دمشق.
تعكس أسعار السوق السوداء المعتمد على التهريب، خصوصاً في المنطقة الجنوبية، مستوى التوتر الميداني وتوافر الذخيرة، لا سيما بعد التوترات في السويداء وهجوم العشائر وازدياد الطلب على القطع المهرّبة. فذخيرة 5.45×39 مم كانت أغلى من 7.62×39 مم بسبب ندرة المخزون وارتفاع الطلب عليها، في حين كانت أسعار الذخائر من العيار الأطلسي تنخفض أحياناً عن نظيراتها الروسية. تُباع البضائع المهربة في السوق السوداء بأسعار متفاوتة وفق السوق والمعارك ومسار تدوير السلاح؛ فبندقية الكلاشينكوف أصبح سعرها يتراوح بين 100 و500 دولار أمريكي تبعاً للجودة ومصدرها، في حين قد يُباع صاروخ غراد قصير المدى (قرابة 20 كم) بحوالي 1,700 دولار، ويصل سعر النسخ ذات المدى الأطول (نحو 40 كم) إلى نحو 8,000 دولار. وعلى صعيد الأسلحة الفردية، يُعرض مسدس عيار 9 ملم في مناطق ريف دمشق والقنيطرة بسعر يتراوح بين 400 و500 دولار، في حين تشير المعلومات من الأرض أن مسدس "براونينغ" عيار 9 يباع بنحو 3,000 دولار. أما مسدسات عيار 14 ملم فبدأت أسعارها من نحو 1,000 دولار في بعض المناطق مثل سعسع وكنّاكر ( التي تشكل بموقعها الواصل بين عدة مناطق مكان توزيع للمهربين) وريف درعا الشمالي.
بحلول منتصف العام 2025 تبلورت خريطة تهريب ديناميكية تعكس تباين المسارات والجهات والسلع؛ إذ ظل محور القلمون-البقاع الشرقي-القصير الأعلى قيمة، حيث واصلت شبكات تهريب الصواريخ الموجّهة والقذائف نشاطها بالرغم من الرقابة و رغم الضربات الإسرائيلية لمخازن المهربين وبالرغم من عمليات إدارة الأمن العام السورية الأخيرة لضبط السلاح هناك، في حين برز المحور الجنوبي نحو الأردن بوصفه أكثر المسارات ابتكاراً بعد اعتماد الطائرات المسيّرة لتقليل البصمة الأرضية. أما شرقياً، بقي معبر البوكمال-القائم العمود الفقري لنقل المعدات الثقيلة ومكوّنات السلاح، في حين تراجعت في الشمال الشحنات الكبرى بفعل الضغوط التركية وتبدل موازين القوى، مع استمرار تجارة الأسلحة الصغيرة والمناظير وأجهزة الاتصال عبر شبكات "داعش" و الاكراد.
من يضبط طرقات التهريب
زعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه أحبط عملية تهريب "وسائل قتالية" في منطقة جبل الشيخ على الحدود بين سوريا ولبنان؛ خلال نشاط ليلي نفذه "لواء الجبال 810" بالتعاون مع "الوحدة 504"، إذ أوقف عدد من المشتبه بهم أثناء محاولتهم نقل وسائل قتالية من الأراضي السورية إلى اللبنانية. تتابع إسرائيل بدقّة منظومة التهريب عبر سوريا وتنفّذ عمليّات اعتراض وقمع متعدّدة الأطراف؛ وتنصب حواجز في المنطقة الجنوبية في سوريا (تنطلق عملياتها من نقاطها التسع في القنيطرة) للتفتيش و الاعتقال لمنفذي محاولات تهريب قرب جبل الشيخ وصولاً إلى مداهمات استخبارية واستهدافات لمنشآت تصنيع صواريخ داخل العمق السوري؛ وآخرها عمليات تفتيش على محور أوتوستراد السلام في القنيطرة، بهدف منع وصول أسلحة متقدّمة إلى مجموعات مسلحة وحلفائها الإقليميين.
مؤخراً، اعترضت القوات البحرية الإسرائيلية طائرات مسيّرة وانخرطت بعمليات رصد وإعاقة لمسارات بحرية وجوية يُشتبه في استخدامها لشحنات تسليح ستهبط في الأراضي السورية. أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية (الشاباك والجيش) أعلنت في الآونة الأخيرة تفكيك شبكات تهريب كانت تربط إيران بخلية داخل الضفة الغربية في فلسطين ، تمر عبر سوريا، وغرضها إيصال أسلحة إلى خلايا مسلّحة، في عمليات استمرت شهوراً قبل الاعلان عنها.
هذه الضغوط ساهمت أيضاً في تمكين جهود محلية ودولية لتفكيك مخازن أسلحة على أراضيٍ لبنانية وسورية، ودفعت أجزاءً من النخبة السياسية والعسكرية اللبنانية (مثل مديرية المخابرات واللواء التاسع) إلى تعاون جزئي في البقاع والجنوب. من جهةٍ أخرى، قد تنظر الإدارة السورية الجديدة أو جهات فاعلة داخلها إلى عمليات تهريب السلاح بوصفها عامل يقوّض سيادتها أو يجرّح صدقيّة التعهّدات الجديدة بمكافحة التسليح غير المشروع واحتكار الدولة للسلاح وضبط السوق و مكافحة الإرهاب و العناصر المنفلتة، خصوصاً إذا رُبطت هذه العمليات بعمل استخباري إسرائيلي أحادي من دون تنسيق؛ وهو الأمر الذي يقوض المساعي الدولية لرفع العقوبات و إعادة ترتيب الإدارة السورية الجديدة. ولذلك فإن الأمن العام يسعى جاهداً لضبط هذه الشبكات، لا سيما الموجودة في منطقة كناكر حيث داهمت يوم الأحد 26 تشرين الأول/أكت وبر الجاري، مقراً لأحد المهربين العاملين على طريق الجنوب واعتقلته مع ضبط أسلحة في مخازنه التي يشرف عليها.
أما دول الجوار مثل الأردن، فتبدي مخاوف أمنية واضحة وتحاول منع أيّ تسليح مُهرَّب عبر حدودها، لأن انتشار التهريب يهدّد استقرارها الداخلي، ويساهم في تعزيز فرص التوتر و الحشد و التجمعات العشائرية لا سيما في الشمال والشمال الشرقي، ليبدو أمامنا من هذه الديناميكية أن مكافحة التهريب لم تعد مهمة عسكرية بحتة؛ بل ساحة توازُنية بين استخبارات إقليمية، تغيّرات سياسية داخلية وضغوط دبلوماسية حول منح المساعدات ورفع العقوبات.
