الصين والولايات المتحدة: نحو عصر متعدد الأقطاب؟

وارف قميحةالسبت 2025/11/01
ترامب جينبينغ
Getty
حجم الخط
مشاركة عبر

اللقاء الذي جمع الرئيس الصيني شي جينبينغ، بنظيره الأميركي دونالد ترامب، في كوريا الجنوبية، قبل يومين، يمثل محطة مهمة في تاريخ العلاقات بين أكبر اقتصادين عالمياً، ويأتي في سياق طويل من التحديات الاقتصادية والتجارية التي شهدتها السنوات الأخيرة. لم يكن اللقاء مجرد حدث بروتوكولي؛ بل انعكاس لاستراتيجية الصين الشاملة في إدارة العلاقات الدولية المعقدة، القائمة على الحوار والحلول المتوازنة مع احترام المصالح الوطنية وعدم الانزلاق إلى المواجهة التصادمية.

سبق اللقاء جولات مشاورات اقتصادية وتجارية في كوالالمبور، حيث توصلت الفرق الفنية الصينية والأميركية إلى توافق بشأن معالجة الشواغل الكبرى لكل طرف. هذه الجهود تمثل امتداداً لموقف الصين الثابت تجاه الحرب التجارية، الذي يقوم على ثلاث ركائز: الدعوة للحوار والتفاوض، حماية المصالح الوطنية وفق القوانين الدولية، والتركيز على الاستقرار الاقتصادي والتنمية المستدامة، مع إدراك كامل لتأثير العلاقات الصينية-الأميركية على الاقتصاد العالمي.

 

خلال لقاء بوسان، شدد الرئيس شي على أن العلاقات الصينية الأميركية تحافظ على استقرارها تحت قيادتهما المشتركة، وأن التاريخ والواقع يلزمان البلدين بأن يكونا صديقين وشريكين. وأوضح أن اختلاف الظروف الوطنية قد يؤدي إلى بعض الاحتكاكات، وهو أمر طبيعي بين أكبر اقتصادين عالمياً، لكن التحدي الحقيقي يكمن في التمسك بالمسار الصحيح والتعاون لمواجهة الرياح والأمواج التي تعترض العلاقات الثنائية. وقد تجسدت هذه الرؤية عملياً في استئناف التجارة الزراعية بين البلدين، بما يشمل شراء الصين لفول الصويا الأميركي، وهذا ما يدعم القطاع الزراعي الأميركي ويضمن استقرار الإمدادات الغذائية للصين. كما اتُّفق على تخفيف الرسوم الجمركية الأميركية على السلع الصينية، وتأجيل بعض الضوابط الصينية على تصدير الموارد النادرة، بالتوازي مع تجميد مؤقت لبعض الإجراءات الأميركية المقابلة، في تعبير واضح عن روح التفاهم والمرونة في إدارة الملفات الحساسة.

 

تُظهر المعطيات أن الصين تتبنى استراتيجية مزدوجة، تجمع بين حماية مصالحها الاقتصادية الحيوية وتجنب المواجهة المفتوحة، مع إدراك أن أيّ تصعيد قد يضرّ بالاقتصاد الصيني نفسه. فالقيادة الصينية ترى أن الاقتصاد أداة للتعاون والتنمية، وأن الحوار والتفاهم أساس الاستقرار، وأن إدارة الملفات الاقتصادية بعقلانية تحقق مكاسب طويلة المدى لكل الأطراف.

ويكتسب خطاب الرئيس شي في الدورة الأولى للاجتماع الثاني والثلاثين لقادة اقتصادات منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC)، في جيونجو بكوريا الجنوبية، أهمية إضافية. فقد شدد على بناء اقتصاد شامل ومنفتح، دعم التجارة متعددة الأطراف، تعميق التكامل الإقليمي، الحفاظ على استقرار سلاسل التوريد وتعزيز الرقمنة وتخضير التجارة. كما أكد على التنمية الشاملة والمستدامة للإنسان والبيئة معاً، وإتاحة الفرص لجميع الدول للنمو المشترك، وهذا ما يعكس استراتيجية الصين القائمة على التنمية المتوازنة، الانفتاح على العالم وحماية المصالح المشتركة.

 

ويضاف إلى ذلك الأبعاد الحضارية والسياسية لمبادرات الصين العالمية. فقد أرسى الرئيس شي منذ سنوات، رؤية تقوم على تعزيز السلام والتنمية والحضارة، والمساهمة في بناء حوكمة عالمية أكثر عدالة وفعالية، تقوم على احترام سيادة الدول وتعزيز التعاون متعدد الأطراف، ودعم فكرة عالم متعدد الأقطاب قادر على مواجهة التحديات المشتركة للبشرية. وهذه الرؤية تتماشى مع مبادرة "المصير المشترك للبشرية"، التي ترى أن الاستقرار والنمو العالمي لا يتحقق إلا عبر التعاون البناء بين القوى الكبرى، بما يضمن فرص التنمية والازدهار لجميع الشعوب.

تُظهر التطورات الأخيرة بوضوح أن السياسة الصينية قائمة على التوازن بين حماية المصالح الوطنية والانفتاح على الحوار متعدد الأطراف. فاستمرار التواصل والحوار الدائم وإدارة الملفات الاقتصادية بعقلانية، يخلق مساحة أكبر للتعاون المستقبلي، سواء في التجارة، الابتكار التكنولوجي، الأمن السيبراني، مكافحة الأوبئة، أو القضايا المالية العالمية. كما توفر الاتفاقات العملية في بوسان بكوريا، نموذجاً لإدارة الخلافات بطريقة تقلل المخاطر وتحقق مكاسب بعيدة المدى للجانبين وللاقتصاد العالمي ككل.

 

كما تؤكد الرؤية الصينية على أهمية بناء شراكات اقتصادية واستراتيجية متعددة الأطراف، ودعم التجارة الحرة، والإصلاح المستمر لمنظمة التجارة العالمية، وتمكين تكامل الاتفاقيات الإقليمية مثل "RCEP" و"CPTPP"، لتعزيز نظام عالمي أكثر عدالة واستقراراً، قائم على الحوار والمصالح المشتركة، بعيداً عن النزاعات الأحادية. فالاستقرار الاقتصادي العالمي لا يحقق مصالح الصين فقط؛ بل يعكس قدرة المجتمع الدولي على مواجهة التحديات المشتركة، بما يسهم في تعزيز السلام والتنمية والحضارة، ويؤكد فكرة المصير المشترك للبشرية.

 

من زاوية استراتيجية، يمثل لقاء بوسان وخطاب "APEC"، تجسيداً لرؤية الصين طويلة المدى، أن الحوار أداة لتجاوز الخلافات، والاستقرار هدف أساسي، والانفتاح شرط ضروري لتحقيق مصالح مشتركة، والتنمية يجب أن تكون شاملة ومستدامة، مع التزام بمبادئ السلام والحضارة، وتعزيز الحوكمة العالمية، وبناء عالم متعدد الأقطاب قادر على مواجهة التحديات المشتركة للبشرية. الصين بذلك تؤكد قدرتها على إدارة التوترات مع الولايات المتحدة بشكل مسؤول، وتعزيز شراكاتها الإقليمية والدولية، وجعل الاقتصاد أداة للتنمية، والحوار أساس الاستقرار، والانفتاح وسيلة لتحقيق مصالح مشتركة للبشرية جمعاء.

في المحصلة، يظهر أن الصين تسعى عبر سياساتها الاقتصادية والدبلوماسية إلى تحويل التوترات إلى فرص للنمو والتعاون المشترك، وتعزيز مكانتها بوصفها قوة مسؤولة في نظام عالمي متعدد الأقطاب، داعمة للسلام والتنمية والحضارة، مع التزام بمبادئ الحوكمة العادلة والمصير المشترك للبشرية. اللقاء في بوسان وخطاب "APEC"، يؤكدان أن الاستقرار الاقتصادي والسياسي ليس خياراً ثانوياً؛ بل ركيزة أساسية لسياسة الصين الدولية، تجعلها لاعباً قادراً على إدارة التحديات العالمية وتحويلها إلى فرص تنموية مشتركة.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث