في خطوة لافتة تُقرأ في سياق التحوّلات الإقليمية المتسارعة، عُقد اجتماع أمني رفيع المستوى في العاصمة السعودية الرياض بين الرئيس السوري أحمد الشرع وكبار المسؤولين السعوديين، على هامش مؤتمر استثماري يُفترض أن يكون اقتصادياً بحتاً.
لكن طبيعة اللقاء وتوقيته يُخرجانه من سياقه المعلن، ليصبح حدثاً سياسياً وأمنياً ذا دلالة استراتيجية.
لا يُنظر إلى هذا الاجتماع بوصفه مجرد تقارب بروتوكولي؛ بل بوصفه مؤشراً على تغيّر جوهري في مقاربة الرياض لملفّها السوري.
فبعد سنوات من القطيعة، يبدو أن المملكة العربية السعودية تعيد تقييم أولوياتها، وتنظر إلى دمشق اليوم بوصفها شريكاً محتملاً في مواجهة تهديدات مشتركة، أبرزها التمدد الإيراني عبر الميليشيات المسلحة التي استغلّت فراغ الدولة في سوريا لبسط نفوذها.
عزل دمشق لا يخدم مصالح الرياض الأمنية
ويرى محلّلون أن الرياض، التي لطالما اعتبرت النفوذ الإيراني في سوريا خطاً أحمر، بدأت تُدرك أن استمرار عزل دمشق لن يخدم مصالحها الأمنية؛ بل قد يُعمّق الفراغ الذي تستغله طهران.
ومن هنا، يأتي التنسيق الأمني بوصفه مدخلاً واقعياً لإعادة سوريا إلى الحاضنة العربية، ليس عبر البوابات الدبلوماسية التقليدية؛ بل عبر التعاون الميداني والمخابراتي الذي يُمكن أن يُسهم في إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتحجيم القوى غير النظامية.
ويقول الباحث والمحلل السياسي ضياء قدور، في حديث لـِ "المدن": "على الرغم من أن الزيارة تأتي تحت مظلة الاقتصاد والاستثمار، فإن الجمع بين وزيري الخارجية والداخلية في هذا السياق، يمنح الاجتماع دلالة أمنية وسياسية عميقة تؤكد دخول السعودية لتكون شريكاً استراتيجياً في إعادة بناء سوريا الجديدة".
ويضيف: "تحمل هذه الاجتماعات في طياتها ما هو أبعد من مجرد وعود بالتعاون الاقتصادي، فهي تشير إلى أن الملف الأمني هو المحور الأكثر إلحاحاً في العلاقة الثنائية، حيث تسعى الرياض إلى تنسيق عالي المستوى لمكافحة التحديات الأمنية المشتركة، وفي مقدمتها شبكات تهريب المخدرات (خاصة الكبتاغون)، مما يخدم الرؤية السعودية لاستقرار المنطقة، ويمنع سوريا من "الانزلاق إلى دوامة العنف" مجدداً".
أهداف استراتيجية أعمق من مجرد تعاون مالي
هذا التوجه الأمني، وفق قدور، يتعمق ليلامس صميم بناء الدولة السورية، حيث تتقاطع التكهنات بشأن إعادة هيكلة الجيش السوري أو تدريب كوادر عسكرية سورية في السعودية مع رغبة الرياض الجادة في بناء مؤسسة عسكرية وطنية قوية ومركزية، وهذا السيناريو إن تحقق، يمثل مشاركة مباشرة وفاعلة في ترسيخ أسس الدولة السورية، وهو هدف استراتيجي أعمق بكثير من مجرد تعاون مالي؛ إنه ربط الدعم الاقتصادي بضمانات أمنية وسياسية تهدف إلى تحقيق الاستقرار المستدام".
وفي هذا الإطار، يبرز البعد الاستراتيجي الأكبر للانخراط السعودي، والمتمثل في محاولة قطع الطريق على أيّة عودة لنفوذ طهران لا سيما عبر القنوات والشبكات غير النظامية، فبعد التغيير في دمشق، لا تزال المخاوف قائمة من استغلال هذه الميليشيات والأذرع غير الحكومية الموالية لإيران لأي فراغ أمني أو ضعف في مؤسسات الدولة الوليدة (الجيش والأمن) لتصبح قوة موازية تهدد الأمن الإقليمي.
وبناءً عليه، يمكن النظر إلى دعم الرياض لإعادة بناء الجيش والمؤسسات الأمنية السورية على أنه مبادرة أمنية-استراتيجية حاسمة لترسيخ أركان الدولة المركزية، وتجفيف البيئة التي قد تسمح للقوى الإقليمية الأخرى بالتمدد والعبث في مستقبل سوريا، وفق وجهة نظر قدور.
الموقف السعودي من ملف المقاتلين الأجانب
وتؤكد مصادر متابعة لـِ "المدن"، أن التعاون الأمني بين السعودية وسوريا لن يقتصر على تبادل المعلومات؛ بل سيشمل تدريب كوادر وزارة الداخلية السورية، مع تركيز خاص على ملف المقاتلين الأجانب.
وتشير إلى أن الحل الأمثل لهذا الملف (ملف المقاتلين الأجانب) يكمن في إعادة هؤلاء المقاتلين إلى بلدانهم الأصلية، وهو موقف تدعمه السعودية وغالبية الدول العربية، انطلاقاً من مبدأ رفض وجود أيّة كيانات خارج سلطة الدولة.
ويقول خالد الحماد، المشرف العام على مركز وسط للبحوث والدراسات الفكرية، من السعودية: "يأتي هذا الاجتماع في إطار العلاقة الأمنية السورية السعودية، والتعاون الأمني، وكذلك تدريب الكوادر الأمنية السورية، وربما لا يشكّل تمدد النفوذ الإيراني في سوريا خطرًا قائمًا حاليًّا، نظرًا لما تعرضت له إيران وأذرعها في المنطقة، لكن هناك هاجسًا أمنيًّا يقلق الجميع، وهو الحالة الفصائلية في سوريا، ومن ضمنها وجود المقاتلين الأجانب، وكذلك تنظيم داعش، الذي نفّذ عدة عمليات في سوريا بلغت حتى شهر أغسطس 116 عملية".
ويضيف: "سيكون هناك تدريبات موجّهة لوزارة الداخلية، وليس للجيش السوري"، مشيراً إلىً أن "ملف المقاتلين الأجانب يثير قلق جميع الأطراف، وأعتقد أن الحل يتمثل في إعادة هؤلاء المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم الأصلية، وهو الحل الذي تؤيّده السعودية وأي دولة عربية، وفق قناعتي؛ فينبغي ألا يوجد أي كيان يهدد الاستقرار أو يمارس أي أعمال خارج نطاق الدولة في سوريا".
الرؤية السعودية: بناء دولة سورية حديثة
من جهته، يرى المحلل عبد الرزاق الحسين، أن المخاوف السعودية من النفوذ الإيراني في سوريا ليست تكتيكية؛ بل وجودية، إذ لا يقتصر الخطر على الاستقرار السوري فحسب؛ بل يمتد ليهدد القيم الاجتماعية والأمن القومي السعودي، خصوصاً في مناطق حيوية مثل المنطقة الشرقية، ولهذا، تركز الرؤية السعودية على بناء دولة سورية حديثة، منظمة رقمياً، وقادرة على مكافحة التهريب والمخدرات، وتأمين حدودها ضد المقاتلين الأجانب وخلايا داعش التي لا تزال نشطة.
ويقول الحسين في حديث لـِ "المدن": "السعودية تنظر إلى سوريا على أنها بلد امتداد أمني واقتصادي وتجاري، ضمن منظومة جديدة في المنطقة قد يمكن إطلاق مسمى عليها مثل (اتحاد عربي خليجي تركي)، وفي حال نموّه قد يُشبه بداية (النمر الآسيوي) أو الاتحاد الأوروبي".
ويستطرد: "فكون السعودية دولة تمتلك عمقاً عربياً وإسلامياً رائداً، فإن تراكم الخبرات والتجارب السعودية، والمال المتحرك والمرن، جعل منها مركزًا اقتصاديًّا مهمًّا، فهناك صناديق سيادية بأرقام فلكية، وشركات عملاقة قائدة مثل أرامكو وسابك، وغيرها، إضافةً إلى رأسمال خاص عملاق، هذا من جهة الدولة، ومن جهة أخرى فإن الشعب والتوجه العام ينبعان من محبة لسوريا ونظرة إليها باعتبارها تاريخًا وأمًّا".
إيران والمخدرات هاجس لدى المملكة
ويتابع قائلاً: "استراتيجيًّا، يُعدّ النفوذ الإيراني وتجارة الممنوعات هاجسًا لدى المملكة، ولا يمكن تجاوزه بمجرد انتهاء النظام البائد، فقد خلقت إيران عناصرَ وشبكاتٍ وبؤرًا للاستمرار في أدائها المخفي، عبر إعادة خلق ساحة مقامرة دولية في أرضٍ أخرى لمصالحها، وسورية اليوم أرضٌ خصبة لذلك، بالرغم من نشاط الحكومة السورية في إنهاء هذه البؤر".
وتركّز رؤية السعودية في سوريا، وفق الحسين، على نقاط مهمة، مثل: الأمن السيبراني، تنظيم الدولة السورية وفق منظومة حداثية إلكترونية، دعم وتنسيق في مجال مكافحة المخدرات والتهريب، تعاون أمني مباشر، وقد حققت نجاحًا في ذلك، خاصة في ملف انخفاض معدل تهريب المخدرات.
وترى السعودية أن النفوذ الإيراني في سوريا يهدد المجتمع السعودي أخلاقيًّا وقيميًّا، وقد يمتد إلى مناطق مهمة في السعودية ذات ثقل اقتصادي وتجاري، خصوصًا في المنطقة الشرقية مثل الدمام والخبر وغيرها على ساحل الخليج العربي، وما قد ينتج عن ذلك من عمليات إرهابية ومحاولات انفصال قد تحظى في لحظة ما بدعم إقليمي أو دولي قريب منها، وبالتالي فإن الخطر، بما تراه السعودية، هو خطر وجودي عليها، لذلك، حظيت سوريا في دور هذا الاجتماع بأولوية الانخراط، وفق تعبير الحسين.
ووسط كل ذلك، وباختصار، ليس الهدف من هذا اللقاء الاقتصادي؛ بل الأمني والسياسي: فالسعودية تسعى إلى تثبيت وجودها في المعادلة السورية من جديد، في حين تبحث دمشق عن غطاء عربي يُخفّف من اعتمادها على حلفائها الإقليميين. والمشترك بين الطرفين، اليوم، هو القلق من إيران.
