في فجر 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، سقط نظام بشار الأسد، وانهار معه آخر ما تبقّى من رموز السلطة الأمنية. في تلك الساعات الأولى، فُتح أبواب المسلخ البشري المعروف بـ"سجن صيدنايا"، فاندفع الآلاف من المعتقلين إلى النور بعد سنواتٍ من العتمة والعذاب. عندها فقط، أدرك السوريون أن ثورتهم قد بلغت غايتها، وأن الكابوس الذي جثم على صدورهم لأكثر من نصف قرن قد انزاح أخيراً.
وحدات الجيش، بكامل فرقها وتشكيلاتها، أُجبرت على التسوية وإلقاء السلاح. أما القادة الكبار فقد فرّوا على عجل إلى مطار حميميم، بحثاً عن حماية روسية لم تأتِ. وفي الوقت نفسه، هرع بعض رجال السلطة نحو الساحل، ظنّاً منهم أن طبيعة المنطقة الجغرافية وخلفيتها الطائفية، ستؤمّن لهم ملاذاً أو ربما قاعدة لثورة مضادة ضد الشرعية الجديدة.
غير أن المفاجأة الكبرى كانت في انهيار ذلك التصوّر، إذ لم يجدوا من يلتفّ حولهم، فعمّت الفوضى وهرب الجميع. ومن بقي منهم اضطر إلى الفرار نحو بيروت عبر مسالك التهريب الجبلية، فيما تهاوت أحلامهم القديمة بإمكانية فصل الساحل أو تحويله إلى جبهة صمود أخيرة. كان كل شيء قد انتهى؛ سقط النظام، وسقطت معه أسطورة الخوف التي بناها لعقود.
الزيارة الاولى
زار أحمد الشرع مدينة اللاذقية بعد فترة وجيزة من تسلّمه الحكم، ورفع علم التحرير أمام مدرسة جول جمال، في مشهد يختزل رمزية سياسية عميقة تتجاوز الحدث البروتوكولي إلى فعلٍ يحمل دلالات وطنية بليغة. فهذا الموقع لم يكن يوماً عابراً في المشهد السوري.
فالمدرسة التي تحمل اسم البطل جول جمال تحوّلت خلال سنوات الحرب إلى ثكنة عسكرية مغلقة، وشهدت حضوراً إيرانياً مكثفاً، ما جعلها إحدى النقاط الرمزية للصراع في الساحل السوري. واليوم، يأتي رفع العلم في هذا المكان تحديداً ليعيد إلى الذاكرة معنى الدولة الوطنية الموحَّدة، ويؤشّر إلى انتقال رمزي من مرحلة الحرب إلى مرحلة الاستقرار.
بهذه الخطوة، أراد الشرع أن يبعث برسالتين واضحتين إلى الداخل والخارج على حدٍّ سواء:
أولاً، أن هذه المدرسة، بتاريخها الوطني الموثّق، استعادت دورها المدني والتربوي، في إشارة واضحة إلى نهاية الحقبة العسكرية في هذا الموقع وما يمثله من تحوّل رمزي في بنية السلطة.
ثانيًا، أن الحديث عن سيناريوهات التقسيم لم يعد مطروحاً، خصوصاً بعد أن ركّز الشرع في معظم لقاءاته وخطاباته على فكرة وحدة سوريا، باعتبارها جوهر المرحلة الجديدة في عملية إعادة بناء الدولة وإعادة رسم الخريطة السياسية للبلاد.
عهداً يحمل رسائل طمأنة للسكان، وضمانة لوجود الدولة في هذه المدينة التي شهدت تصاعداً في حالات الثأر والانتقام خلال الأشهر الماضية، ورسالة في الوقت نفسه إلى القوى الإقليمية والدولية بأن اللاذقية، بكل رمزيتها، جزء لا يتجزأ من الكيان الوطني الجديد.
الانتقام
لم يطل الوقت كثيراً حتى اندلع خلافٌ في مدينة اللاذقية، وتحديداً في إحدى قرى جبلة، بين ما تبقّى من عناصر يُطلق عليهم محلياً اسم "فلول النظام" وبين وحدات من الأمن العام.
تطوّر الاشتباك بسرعة وسقط فيه ثمانية قتلى، ما فتح الباب أمام سلسلة من أعمال الانتقام التي تحوّلت إلى مجزرة مروّعة طالت العلويين في الساحل بأكمله.
أدان الرئيس الجديد الحادثة بشدّة، وشكّل لجنة لتقصّي الحقائق، في محاولة لاحتواء الموقف، إلا أن الشرخ بين أبناء الساحل والقيادة المركزية ازداد عمقاً. فالمشاعر المتوترة، والتوجّس القديم من السلطة، غذّيا حالة من الانكفاء والرغبة الضمنية بالانفصال، ولو على مستوى الخطاب الشعبي والمزاج العام.
وفي خضمّ هذه الأجواء، انتشرت إشاعة مفاجئة عن عودة ماهر الأسد إلى الساحل، وتحدّثت بعض المصادر المحلية عن قيام مجموعات موالية له بإنزال العلم الجديد ورفع علم النظام السابق مكانه. سادت حالة من الترقّب والارتباك، رافقها سيلٌ من الأخبار المتضاربة حول انسحاب الفصائل وتراجع قوات الأمن العام من بعض النقاط الحيوية.
ومنذ ذلك الحين، تحوّل الساحل السوري إلى ساحة مفتوحة على التكهنات: هل نحن أمام نواة حركة تمرّد جديدة أم مجرّد فوضى ما بعد السقوط؟
وفي الأثناء، يعيش السكان تحت وطأة انتهاكات متواصلة تتراوح بين القتل والخطف والترهيب، في مشهد يختصر هشاشة المرحلة الانتقالية وعمق الجراح التي لم تندمل بعد.
السيناريو المطروح
تتزاحم اليوم قوى وشخصيات سياسية سورية، كانت يوماً ما جزءاً من منظومة الأسد، على استعادة النفوذ والسيطرة في الساحل السوري تحت شعارٍ يبدو للوهلة الأولى "حماية الطائفة العلوية"، لكنه يخفي خلفه شبكة معقّدة من الحسابات الروسية والمصالح الإقليمية المتداخلة.
الاسم الأبرز في هذا المشهد هو اللواء كمال الحسن، الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية، وأحد أبرز المقربين من موسكو منذ سنوات الحرب. فالحسن، الذي كان يُعدّ "رجل روسيا" داخل النظام السابق، يعيش اليوم في العاصمة الروسية تحت حماية مباشرة، ويُقدَّم كأحد الوجوه الأكثر قبولاً في الساحل، القادر على إعادة بناء الثقة بين اللاذقية ودمشق. وهو آخر مسؤول أمني غادر سوريا بعد سقوط النظام، إذ خرج من السفارة الروسية في دمشق بعد ثمانية أيام من انهيار السلطة.
في المقابل، يبرز اللواء كفاح ملحم، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الوطني، كمنافسٍ مباشر للحسن على النفوذ في المنطقة الساحلية. ووفق معلومات حصلت عليها "المدن"، فقد طُرح اسما الحسن وملحم على طاولة المداولات خلال زيارة وزير الخارجية السورية أسعد الشيباني إلى موسكو، في خطوة تُظهر مدى اهتمام روسيا بإعادة هيكلة المشهد الأمني في الساحل، واستثمار الرموز القديمة التي تمتلك معرفة دقيقة بدهاليز نظام الأسد وأسرار أجهزته الأمنية.
في الموازاة، تظهر القوة الاقتصادية والمالية كطرف ثالث في الصراع على الساحل. إذ يبرز مجدداً رامي مخلوف، الذي يسعى إلى استعادة نفوذه المفقود مستنداً إلى شعبيته الواسعة في المنطقة من خلال جمعية البستان وشبكة الدعم الاجتماعي التي حافظ عليها حتى بعد إقصائه من قبل ابن خاله. وتشير بعض التسريبات إلى أن مخلوف طرح إمكانية تشكيل قوة عسكرية محلية بقيادة اللواء سهيل الحسن، رغم تضارب الأنباء حول مصيره بين من يقول إنه قُتل ومن يؤكد أنه اعتُقل بأوامر من اللواء كمال الحسن قبل سقوط النظام بأيام قليلة.
محمد جابر في الظل
ولا يبتعد عن هذا المشهد اسم آخر يُعيد إلى الواجهة دور الميليشيات المحلية، وهو محمد جابر، رجل الأعمال وقائد ميليشيا صقور الصحراء السابق، الحامل للجنسية الروسية. جابر يتحرك اليوم في الظل، ممولاً وحدات صغيرة تحت اسم درع الساحل، في انتظار اللحظة المناسبة للعودة إلى الواجهة العسكرية والسياسية.
وسط هذه التجاذبات، يعيش الساحل السوري حالة توتر وإعادة تموضع. فالقوى السياسية والأمنية تسعى لإعادة ترتيب أوراقها مع دمشق، فيما تُطرح مبادرات لإطلاق سراح الضباط الذين أجروا "تسويات"، مع وعود بدمج بعضهم في الجيش السوري الجديد الذي ما زال قيد التشكيل.
وفي المقابل، تتصاعد الأحاديث عن إمكانية قيام إقليم ساحلي شبه مستقل، وإن كان ذلك لا يزال أقرب إلى الأماني منه إلى الوقائع السياسية.
وفي خضم هذا الغموض، برز حديث عن تشكيل جسم جديد يُعرف باسم لجنة الساحل الوطنية، يُقال إنها تضم شخصيات علوية ومسيحية وسنية من الداخل والخارج، ويُحضّر لها لتكون إطاراً معترفاً به رسمياً من القيادة في دمشق. لكن هذا المشروع، بدلاً من توحيد الصف، زاد المشهد ارتباكاً واختلاطاً في الأوراق، وأعاد طرح السؤال القديم الجديد حول مستقبل المنطقة ودورها في خريطة السلطة القادمة.
وبين هذا التنازع الخفيّ على النفوذ، يبقى الثابت الأكبر هو خطاب الرئيس أحمد الشرع الذي يتمسّك بمبدأ وحدة سوريا، والنفوذ الروسي الذي لا يبدو أن موسكو مستعدة للتنازل عنه في المدى المنظور.
