نادراً ما يمر يوم، أو أقله أسبوع، بدون أن تقرأ أو تسمع أو تشاهد خبراً عن ابتكارات وإنجازات الصين ـــ شاغلة الخصوم والحلفاء على حد سواء ـــ التي تقف على أعتاب ثورة في عالم الروبوتات، بعد سنوات من الاستثمار الصبور في هذا المجال.
في هذا البلد، أصبحت مشاهدة الروبوتات البشرية والحيوانية، كالكلاب في الشركات والمعارض وبعض المنازل، إضافة إلى الرجال الآليين في المصانع، جزءاً من الحياة اليومية هناك، إلى حد أنه قد تختلط عليك الأمور، وتظن أن ما تراه مقاطع مصوّرة مأخوذة من رواية خيال علمي، لكنها تتحقق بالفعل الآن في الصين.
وتبعاً لذلك، تهيمن الصين حالياً على هذا العالم عبر تصدّرها صناعة أجهزة الروبوت وتطبيقاتها، والدعم الحكومي الموجّه لها. بالمقابل، تحتفظ الولايات المتحدة بتقدم واضح في مجالات البرمجيات والرقائق المتقدمة والأبحاث الأساسية.
الصين والتفوق على أميركا بمئات آلاف الروبوتات
تُصنّف الصين بلا منازع كأكبر سوق في العالم للروبوتات الصناعية عام 2024، إذ استحوذت وحدها على أكثر من نصف عمليات تركيب الروبوتات في العالم بنسبة بلغت نحو 54%. كما تكشف الإحصاءات الأخيرة أن بكين أنهت العام الماضي تركيب ما يقرب من 300 ألف روبوت في مصانعها، وهو أعلى رقم سنوي مسجل على الإطلاق، ويتجاوز بكثير إجمالي عدد الروبوتات في بقية العالم مجتمعة، وفقاً لتقرير صادر عن الاتحاد الدولي للروبوتات في أيلول/سبتمبر.
أكثر من ذلك، باع المصنعون الصينيون للمرة الأولى الروبوتات في السوق المحلية أكثر من المورّدين الأجانب، حيث ارتفعت حصتهم في هذا السوق إلى 57% العام الماضي، بعدما كانت نحو 28% فقط خلال العقد الماضي (النسب هنا على ذمة التقرير ذاته).
كما تجاوز عدد الروبوتات الصناعية العاملة في الصين حاجز المليوني وحدة عام 2024 — وهو الأكبر بين جميع دول العالم.أما الولايات المتحدة، فقد قامت بوضع 34 ألف روبوت في الخدمة، معظمها مستورد من اليابان وأوروبا، بحسب التقرير.
إشارة إلى أن انتقال العديد من الصناعات إلى العصر الرقمي والآلي تميز بزيادة هائلة في الطلب، لذا بلغ إجمالي عدد الروبوتات الصناعية قيد التشغيل في جميع أنحاء العالم 4,664,000 وحدة، عام 2024، أي بارتفاع قدره 9% مقارنة بالعام السابق، ودائماً وفقاً للتقرير.
الاكتفاء الذاتي الصيني في صناعة الروبوتات
تعدّ مدينة هانغتشو الصينية أبرز قوة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات (والفضل في ذلك يعود بشكل كبير إلى شركة DeepSeek ) . الى جانب ذلك، تضم المدينة أبرز شركات التكنولوجيا الناشئة المعروفة باسم "التنانين الستة الصغيرة"، وهو لقب شائع على الإنترنت يُطلق عليها للدلالة على شهرتها وقوتها في مجال الابتكار التقني.
وانطلاقاً من هذه النقطة، فإن هذا التفوق الصيني، سببه امتلاك بكين لكل ما تحتاجه لصناعة الروبوتات، بدءاً من المشغلات التي تحرّك الروبوت، مروراً بـ الحساسات التي تجعله "يشعر" بما حوله مثل الكاميرات أو مجسات اللمس، وصولاً إلى البطاريات التي تمده بالطاقة.
ضع في اعتبارك أن جميع هذه القطع تُصنّع محلياً في منشآت قريبة من بعضها، لذا تصل بسرعة إلى الشركات التي تُصمّم الروبوتات. من هنا، يمكن لتلك الشركات أن تُجرّب وتُعدّل بسرعة على تصميم الروبوت حتى تحصل على نموذج يعمل جيداً، وسهل الإنتاج، ورخيص السعر. كذلك تعمل شركات الروبوتات الصينية بأقصى سرعة، إذ انتقل المصنعون من إنتاج عشرات الوحدات إلى عشرات الآلاف خلال أشهر قليلة فقط.
وماذا عن الأسعار؟
في الواقع، تُعطي الشركات المصنّعة للروبوتات الأولوية لما يُعرف بـ التكامل الرأسي، أي أنها تُنتج بنفسها المكونات الأساسية داخل مصانعها وتشتري المواد الخام من السوق المحلي. ولهذا بدأت أسعار الروبوتات الشبيهة بالبشر بالانخفاض بشكل كبير.
ففي شهر تموز/يوليو، طرحت شركة يوني تري (Unitree) روبوتها الجديد R1 بسعر يقل عن 6,000 دولار، أي ما يعادل نحو ثلث سعر روبوتها السابق G1 الذي صدر قبل عام واحد فقط، استناداً إلى موقع الشركة.
الروبوتات الصينية والمساهمة في حل أزمة نقص اليد العاملة
من المعروف أن بكين تعاني من تراجع حاد في معدلات الولادات، وبالتالي من ارتفاع في معدلات الشيخوخة. لذا تتطلع الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، إلى نشر هذه التقنية لمعالجة هذا الانخفاض باليد العاملة باستخدام الذكاء الاصطناعي والروبوتات.
ولهذه الغاية، بدأت معظم الشركات الناشئة بالفعل بوضع روبوتاتها في مصانعها، مما يساعد في جمع البيانات اللازمة لتدريب أدمغة الروبوتات.
علاوة على ذلك، يتزايد الحماس الشعبي لهذه الإنجازات الكبيرة، ويرجع ذلك جزئياً إلى دعم الحكومة والمنتجين البارزين لهذه التكنولوجيا. لذلك، وأثناء مؤتمر الذكاء الاصطناعي العالمي الفاخر الذي أُقيم في شنغهاي هذا الصيف، امتلأت قاعات العرض بروبوتات شبيهة بالبشر وهي تتقاتل في الحلبة، فضلا عن وجود كلاب آلية رباعية الأرجل تمشي على رجليها الخلفيتين، وروبوتات تُقدّم الفشار للزوار.
والمثير أنه بعد بضعة أسابيع، استضافت بكين أول ألعاب عالمية للروبوتات الشبيهة بالبشر، حيث تسابقت الروبوتات، ورقصت، ولعبت كرة القدم، وتجاوزت مسارات مليئة بالعقبات.
الصين والطموح باجتياح العالم بالروبوتات
من المتوقع أن تنتقل هذه الابتكارات إلى الخارج، إذ يرغب أصحاب الشركات الناشئة المصنّعة للروبوتات في التوسع عالمياً، بما في ذلك إلى الولايات المتحدة. ويرتبط جزء من هذا التوجه، بحروب الأسعار الشرسة داخل الصين، حيث تقل الأرباح إلى الحد الأدنى بسبب المنافسة الحادة بين عدد هائل من الشركات — وهي ظاهرة يُطلق عليها البعض اسم "نييجوان (neijuan) أي "الانطواء الداخلي" أو المنافسة المفرطة.
في المحصّلة توقعت تحليلات سيتي جي بي إس (Citi GPS) في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وهي وحدة بحث وتحليل تابعة لمجموعة سيتي غروب (Citi Group)، أحد أكبر المصارف والاستشارات المالية في العالم — أن يصل عدد الروبوتات الشبيهة بالبشر في العالم إلى 648 مليون روبوت بحلول عام 2050، وهذا بدوره سيُطلق تفوقاً إنتاجياً مستداماً وإمكانات اقتصادية هائلة، كون الروبوتات ستبدأ في تصنيع روبوتات أخرى، بجودة أعلى، وكلفة أقل، وسرعة أكبر.
