تعمل المؤسسات الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية المصرية منذ أسابيع على بلورة رؤية متكاملة لإدارة مرحلة ما بعد الحرب في غزة، ورسم حدود واضحة للدور المصري في ملفات إعادة الإعمار والإشراف عليها، والمشاركة المحتملة في قوة دولية لحفظ السلام، إلى جانب تنظيم تشغيل معبر رفح وضبط الحدود وتأمين المناطق المتاخمة لسيناء.
وبحسب مصادر دبلوماسية مصرية تحدثت إلى "العربي الجديد"، فإن القاهرة وضعت مجموعة من "الخطوط الحمراء"، أبرزها رفض أي سيناريو يؤدي إلى تهجير الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية، وعدم القبول بتحمل مسؤوليات أمنية مباشرة داخل القطاع من دون غطاء وضمانات دولية واضحة، فضلاً عن ضرورة تأمين آلية تمويل مستدامة لإعادة الإعمار وتسيير المعابر والمشروعات المستقبلية.
مشاركة ضمن إطار دولي
وأكدت المصادر أن مصر تشترط أن يكون أي دور لها "ضمن إطار إقليمي ودولي منظم"، بمشاركة الأمم المتحدة والدول المانحة، لتوزيع الأعباء وتحديد المسؤوليات بوضوح، تفادياً لأي فراغ سياسي أو أمني في القطاع. وفي ظل تزايد الحديث عن تشكيل قوة دولية لحفظ السلام بمباركة أميركية، تتجه الأنظار نحو مصر التي تبدو الأكثر جاهزية بفضل موقعها الجغرافي وسجلها الطويل في الوساطة بين "حماس" وإسرائيل وخبرتها في إدارة المعابر.
وأوضح مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير رخا أحمد حسن، لـ"العربي الجديد" أن تشكيل القوة الدولية يخضع لنقاشات على مستويين: الأول تحديد الدول المشاركة، والثاني صياغة مشروع قرار لمجلس الأمن يحدد اختصاصاتها وآليات تمويلها، بحيث تكون تحت إشراف الأمم المتحدة لضمان الشرعية الدولية وتجنب التسييس.
أما مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير حسين هريدي، فرأى أن الزخم الأميركي خلف خطة الرئيس دونالد ترامب للسلام في الشرق الأوسط "يُقلص من مساحة المناورة أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو"، مرجحاً أن فرص فشل الخطة "تبقى ضئيلة" طالما أن واشنطن تمارس ضغطاً مباشراً لإنهاء الحرب.
أدوار مطروحة
وأشارت مصادر غربية إلى تصور أميركي-أوروبي يتضمن نشر قوة "استقرار" متعددة الجنسيات بغطاء من مجلس الأمن، تُكلف بمهام أمنية وإغاثية متزامنة، تشمل تدريب عناصر شرطة فلسطينية جديدة، وإدارة المعابر، وتأمين إعادة الإعمار. وتوقعت أن تكون مصر في قلب هذا التشكيل سواء عبر القيادة أو المشاركة في التنسيق الميداني واللوجستي، خاصة مع إعلان القاهرة الشهر الماضي تدريب آلاف العناصر الفلسطينية استعداداً للمرحلة الانتقالية.
ولا ينفصل الدور المصري المرتقب عن رؤية أوسع تقوم على معادلة "الاستقرار مقابل التنمية". فالاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الأول لمصر، يرى أن استقرار غزة بوساطة القاهرة هو صمام أمان جنوب المتوسط أمام الفوضى والهجرة، بينما تعتبر مصر هذا الدور ورقة لتعزيز موقعها الإقليمي وتخفيف أزماتها الاقتصادية، خصوصاً مع تعهدات أوروبية بتمويل قد يصل إلى خمسة مليارات يورو حتى عام 2027.
عقدة الحدود
ويبقى ملف الحدود الأكثر حساسية، مع استمرار سيطرة الجيش الإسرائيلي على ممر صلاح الدين "فيلادلفي" بطول 14 كيلومتراً على الحدود المصرية-الغزية، وهو ما تعتبره القاهرة "خطاً أحمر". وتشدد مصر على أن إعادة فتح معبر رفح مشروطة بعودة إدارة فلسطينية للمعبر، وخروج كامل للقوات الإسرائيلية من جانبه الفلسطيني. وتربط نجاح أي قوة دولية بضمان هذه السيادة ومنع إبقاء وجود عسكري إسرائيلي دائم.
إلى جانب ذلك، تواجه القاهرة تحدي الجبهة الداخلية في سيناء، إذ قد يؤدي أي انخراط ميداني مصري في غزة إلى ارتدادات على الأمن السيناوي عبر التهريب أو تسلل المسلحين أو الضغط السكاني. وتواكب مصر استعداداتها الأمنية بخطط تنمية عمرانية واقتصادية جديدة لتفادي عودة التوتر.
أما التحدي الأعمق، فيكمن في هندسة "اليوم التالي" فلسطينياً. فغياب اتفاق داخلي بين السلطة الفلسطينية وحماس والفصائل الأخرى سيعرقل أي ترتيبات دولية. لذا تصر القاهرة على أن تكون الصيغة الأمنية-المدنية الانتقالية فلسطينية موحدة، لا تقصي أي طرف، لتفادي تحويل غزة إلى كيان هش أو ساحة صراع نفوذ.
