بينما تتجه الأنظار إلى تثبيت وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس"، تتسابق الأطراف إلى إعلان "انتصاراتها".
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يتباهى برعايته لاتفاق التهدئة، والقيادة الإسرائيلية تحتفي بعودة الرهائن، فيما تروّج "حماس" لصمودها كعلامة بقاء بعد حرب قاسية.
لكن خلف هذه المشاهد الرمزية، يبرز سؤال أكثر أهمية، من الذي راكم نفوذاً استراتيجياً قابلاً للصرف بعد هذه الجولة؟
الإجابة، كما تشير تحليلات دولية، لا تكمن في القدس أو غزة أو واشنطن، بل في الدوحة عاصمة قطر، التي تحولت إلى وسيط لا يمكن الاستغناء عنه في العالم، خصوصاً في واحدة من أعقد ملفات الشرق الأوسط.
من الملاذ السياسي إلى العقدة الدبلوماسية
لم يأتِ الحضور القطري المفاجئ من فراغ، بل كان نتيجة استثمار دبلوماسي طويل الأمد في موقع الوسيط.
فمنذ احتضانها قيادة "حماس"، ونسجها علاقات وثيقة مع واشنطن، وانفتاحها المتدرج على القاهرة وأنقرة والرياض، بنت الدوحة شبكة من الاتصالات العابرة للخصومات. هذه الهندسة المتقاطعة منحتها أفضلية حاسمة في أي مفاوضات تتطلب الحديث إلى أطراف لا تتحدث إلى بعضها.
ومنذ هدنة غزة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023، مروراً بالمبادرات اللاحقة في عامي 2024 و2025، كانت كل الطرق السياسية تمر عبر الدوحة والقاهرة وتحت مظلة رعاية أميركية مباشرة.
تثبيت معادلة الوساطة الثلاثية
تجربة هدنة أواخر 2023، أسّست لما يُعرف اليوم بالوساطة الثلاثية، أي قطر، ومصر، والولايات المتحدة. هذا الإطار أصبح قاعدة لأي مسار تفاوضي جديد. فمجلس الأمن الدولي تبنى أجزاء منه في قراره رقم 2735، ثم تطور إلى تفاهم أوسع مطلع 2025، شمل مراحل للوقف، وتبادل الأسرى، وخططاً لإعادة الإعمار.
ورغم أن التنفيذ ظل موضع تجاذب سياسي وميداني، فإن الدوحة ثبتت موقعها كضامن محوري يربط غرف التفاوض المتباعدة، ويوازن بين الحسابات الإسرائيلية والفلسطينية والأميركية.
واقعية "الحياد النشط"
السرّ في نجاح المقاربة القطرية، هو ما يمكن تسميته بالحياد النشط، أي إدارة الخلاف دون انحياز، لكن مع حضور دائم في قلب المعادلة.
هذا الحياد يمنح الدوحة القدرة على التحدث مع الجميع دون استثناء، من واشنطن إلى حماس، ومن تل أبيب إلى القاهرة. وبفضل هذا الدور، أصبحت قطر شريكاً في حل الأزمة، وليس مجرد ناقل رسائل بين المتخاصمين. فمن دون ترتيباتها اللوجستية والإنسانية، تتوقف قوافل المساعدات، وتتعطل صفقات التبادل، وتتعثر فرص تثبيت الهدوء.
صحف ومراكز بحثية غربية وعالمية، أكدت في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2025، أن أي هدنة قابلة للصمود تمر عبر النفوذ التنفيذي لقطر داخل آليات المتابعة المشتركة.
ضربات الدوحة… واختبار الدور
بلغ اختبار الوساطة القطري ذروته في شهر أيلول/سبتمبر 2025، حين نفّذت إسرائيل ضربة استهدفت قيادات من "حماس" داخل الدوحة، ما أثار إدانات دولية وتحذيرات من نسف جهود الوساطة. لكن الرد القطري كان حاسماً، لن نتراجع عن دورنا.
وطالبت الدوحة بضمانات دولية بعدم تكرار استهداف أراضيها، مؤكدة أن زعزعة الوسيط تعني تفجير التهدئة. المفارقة أن الأزمة عززت مكانة قطر بدل أن تضعفها، إذ عادت الوفود سريعاً إلى طاولة المفاوضات في الدوحة والقاهرة، تحت ضغط الحاجة إلى قناة موثوقة للجميع.
إسرائيل.. مكاسب تكتيكية بلا حسم
على الرغم من تحقيق بعض المكاسب الميدانية واستعادة رهائن، لم تتمكن إسرائيل من ترجمة النجاح العسكري إلى حسمٍ سياسي.
فشلت في إقصاء حركة "حماس"، وتعمقت عزلة تل أبيب الدولية مع تصاعد الانتقادات الغربية لما تقوم به. وبين كل جولة وأخرى، تحولت الهدن المتقطعة إلى استراحات مؤقتة أكثر منها مراحل نحو تسوية دائمة، لتعود الخيوط مجدداً إلى غرف وسطاء الدوحة.
حماس.. كلفة البقاء ومعنى الانتصار
دفعت حركة "حماس" كلفة بشرية ومادية هائلة، لكنها قدمت "البقاء" كدليل انتصار. ورغم الدمار، نجحت الحركة في الحفاظ على مفاتيح التأثير في مفاوضات اليوم التالي عبر رفضها شروط الإقصاء السياسي.
في هذا الإطار، تبقى قطر الوسيط الوحيد القادر على مخاطبة الحركة وضمان التزاماتها، ما يجعل وجود قطر في أي ترتيبات لاحقة، ضرورة أكثر منه خياراً.
واشنطن.. إدارة الأزمة لا حلها
من موقع الراعي والضامن، تبنت الولايات المتحدة سياسة الخطوات الجزئية فترات تهدئة، تبادل أسرى، ومناقشات إعادة إعمار. غير أن الأسئلة الكبرى من قبيل من يحكم غزة؟ وبأي صيغة أمنية؟ ومن يمول الإعمار؟ لا تزال بلا إجابات واضحة إلى الآن.
ومع كل فراغ سياسي، يتعاظم دور الدوحة بوصفها الطرف الوحيد القادر على ترجمة التعهدات الأميركية إلى ترتيبات عملية على الأرض.
لماذا تتقدم الدوحة؟
أدركت الدوحة أن الوساطة ليست موقعاً وسطاً فحسب، بل أداة نفوذ. في شرق أوسط مثقل بالتناقضات، يصبح من يملك القدرة على فتح القنوات وتأمين المقايضات هو اللاعب الأكثر تأثيراً.
وكل صفقة تبادل، وكل هدنة مؤقتة، وكل قافلة مساعدات، تمر عبر منظومة موافقات تبدأ وتنتهي في الدوحة.
بهذا المعنى، راكمت قطر نفوذاً تفاوضياً اليوم، واستعداداً لدور اقتصادي وسياسي أوسع غداً، في إعادة الإعمار وإدارة الحدود والمعابر.
شطرنج الشرق الأوسط من مربع صغير
أثبتت حرب غزة وما تلاها من هدن متقطعة، أن الفائزين الحقيقيين في صراعات المنطقة، ليسوا من يملكون القوة النارية، بل من يمسكون بمفاتيح التهدئة وإدارة ما بعدها.
وفي هذا الامتحان، خرجت الدوحة متقدمة بخطوات، فقطر قد تكون صغيرة في المساحة، لكنها كبيرة في التأثير. وقد نجحت في تحويل الثقة بالوصول إلى الجميع، إلى عملة سياسية نادرة في زمن يعزّ فيه الوسطاء، لتؤكد أن النفوذ في القرن الحادي والعشرين لا يقاس بعدد الدبابات، بل بعدد الأبواب التي تستطيع أن تطرقها وتفتح لك.
