الحرب تراوح مكانها ولا تغادر زمانها.. السلم غائب.. والحلول الوقتية لا تبدو جذابة لأطراف الصراع المباشرين. بينما يلوذ غير المباشرين بمبادرات شراء الوقت.
المراوحة في المكان، أو الحركة أثناء التوقف، هي القانون الحاكم -حتى الآن- لكل من الحرب في أوكرانيا، والحرب في غزة، والحرب ضد إيران.
الهدف الإستراتيجي لأي من الحروب الثلاثة، لم يتحقق -حتى الآن- لكنها توقفت جميعها، فيما يشبه، بلغة الحرب، وقفة تعبوية تتيح للأطراف إعادة شحن بطاريات الحرب، وتعويض الخسائر، ولملمة الجراح، والاستعداد لجولة مقبلة، يراها أغلب الأطراف حتمية، طالما عجزت السياسة وحدها عن تحقيق أي من الاهداف الاستراتيجية، لكل من الحروب الثلاثة.
أحد أهم عوامل تأجيل الحسم في أي من الحروب الثلاثة، هو وعي أطرافها المباشرة، وغير المباشرة، بأن ما ستنتهِ إليه نتائج أي منها، قد يرسم خارطة العالم لمئة عام مقبلة، ولعل هذا الوعي هو ما أنتج لحظة تعبوية قد يطول التوقف عندها، إذ يطمع كل طرف في تعزيز مكاسبه، بما يسمح له بإملاء شروطه لإنهاءالصراع، أو تحسين نتائجه على الأقل.
في مثل هذا المزاج الدولي العام، حيث يغيب الحسم، وتتعذر قراءة المآلات، قد تطول الوقفات التعبوية في بعض مسارح الصراع -أوكرانيا مثلاً- حيث لا يملك فلاديمير بوتين ترف الخسارة، ولا يملك الغرب ترف الإقرار بالهزيمة وتوابعها، فالكل يدرك أن حسم الصراع في المسرح الأوكراني، قد يؤثر بدرجة كبيرة، على شكل خارطة العالم-أوروبا بصفة خاصة- وعلى طبيعة النظام الدولي، الذي سوف تفرزه الحرب القائمة.
يفضّل دونالد ترامب أن يلعب دورالحكم في حلبة المصارعة الحرة الأميركية، متأملاً أن ينال التعب من جميع المتنافسين، فيما يحتفظ هو بكامل قوته، بل إنه ربما استثمر انشغال المتنافسين فوق الحلبة، بالركل والعض، بمحاولة نشل انتصار رخيص فوق مسرح سهل، في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة (فنزويلا مثلاً).
يعرف ترامب مقدار انشغال الأطراف الدولية المؤثرة، بما يجري فوق المسرح الأوروبي في أوكرانيا ومحيطها، ويستفيد كثيراً من هذا الانشغال، فيحرك بوارجه من أجل نصر بلا حرب، ضد فنزويلا وكولومبيا، بينما يرواغه الرئيس الفنزويلي مادورو، داعياً شعوب ودول أميركا اللاتينية للوقوف بجانب فنزويلا في الحرب، وإلا فإن شهية ترامب قد تنفتح لابتلاع المزيد من دول أميركا اللاتينية.
عند ترامب، يبدو أن الإبقاء على حال المراوحة في المحل -كانوا يسمونها في طابور الصباح المدرسي "خطوة تنظيم"- هو خيار مثالي، يتيح وضع خصومه أو منافسيه في كل مسرح على حده، تحت ضغط كافٍ لتوتيره، الى أن يقع في الخطأ، فينال العقاب الفوري.
يفعل ترامب هذا بوضوح في الملف الأوكراني، الذي أتاح له ترويض روسيا، بالتلويح لها ببعض المكاسب الأرضية على حساب أوكرانيا، بينما يتحرك جنرالاته على الأرض لتحسين قدرة أوكرانيا على إصابة أهداف في العمق الروسي.
الحرب في أوكرانيا أتاحت لدونالد ترامب أيضاً، فرصة ترويض أوروبا، فهو يتبنى منذ عودته الى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير الماضي، مبدأ أن "كله ح يحاسب ع المشاريب"، فلا عشاء مجاني على مائدة ترامب، ولا سلاح أميركي دون أن تسدد أوروبا ثمنه كاملاً غير منقوص.
حتى "الناتو" الذي اعتاد منذ تأسيسه،الحصول على عشاء مجاني طيلة الوقت فوق موائد أميركية خالصه، ما عاد يحلم ولو ببعض ال"سناكس" المجاني، أو ب"تصبيرة" أميركية مجانية، بين وجبات مدفوعة الثمن بالكامل.
الوضع في الشرق الأوسط، لم يعد استثناءً من استراتيجية ترامب في حرب إعادة هيكلة العالم، عبر مراسيم رئاسية أميركية، ركزت بصفة خاصة على الرسوم الجمركية كأداة أعاد ترامب اكتشافها، لصناعة عالمه كما يريده.
خاض ترامب حروبه في الشرق الأوسط فوق خريطة إسرائيلية رسمها بنيامين نتنياهو، بالقلم الرصاص، وقام بتحبيرها دونالد ترامب ماراً بأقلام توقيعاته بالحبر الغليظ، فوق خريطة تستجيب حتى لأوهام اليمين الأسرائيلي. لكن الحال في الشرق الاوسط، بدا بالرغم من ذلك، عصياً على ترامب، فبرغم انتصارات ميدانية حققتها إسرائيل بدعم مباشر وغير مباشر من الولايات المتحدة، فإن أمرين أربكا حسابات ترامب وتقديرات فريقه للموقف، الأمر الأول هو الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في غزة، الذي تجاوزت معاناته كل ما جرى في ذرى الحرب العالمية الثانية، سواءً في ستالينغراد، أو في درسدن، بل إن ما أصاب غزة من دمار وما لحق بشعبها من تطهير عرقي وإبادة جماعية، لا يقل بشاعة -بشهادات حكومات غربية اعتبرت المحرقة اليهودية ركناً أساسياً من أركان سياستها الخارجية- عما أسمته الدعاية الإسرائيلية بـ"المحرقة" أو "الهولوكوست" الذي جرى تسويقه دعائياً لتسويغ احتلال فلسطين وإبادة شعبها.
أما الأمر الثاني، فهو الصمود السياسي لمصر ورئيسها عبدالفتاح السيسي، الذي قلب حسابات ترامب نفسه، بعدما أخفقت ألاعيبه النفسية في حمل مصر على التخلي عن ثوابتها في الأزمة. حافظت مصر على موقفها الرافض للتهجير القسري للفلسطينيين من غزة عبر سيناء، ولم تتوقف عن ملاحقة هدف مرحلي بوقف فوري للحرب، وعودة سريعة لمفاوضات حل نهائي استطاعت مصر والسعودية وفرنسا، وضع سياج لحمايته عبر تبني دولي واسع لحل الدولتين، بما يسمح بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة فوق الأراضي التي احتلت بعد الخامس من حزيران/يونيو عام 1967.
أما الحرب الثالثة التي يجري الترويج لها ضد إيران، فلا أراها وشيكة ولا قريبة، ما لم يصبح ضرب ايران هدفاً لأميركا و"الناتو"، بقصد إخراجها من حسابات الحرب الأوكرانية، وإنهاء تحالفها في الحرب إلى جانب روسيا.
فلاديمير بوتين يستخدم دبلوماسية التفاوض بهدف إطالة أمد الحرب في أوكرانيا حتى تحقيق أهدافه فيها.
الانتصار عند بوتين لا يتحقق بغير معاهدة جديدة تقر فيها أوروبا والولايات المتحدة بسيادة روسيا على الأراضي التي سيطر عليها جيشها، وضمنها الدوما الروسي رسمياً، إلى خريطة الاتحاد الروسي. وهذه المعاهدة تبدو مستحيلة عند بريطانيا وألمانيا وفرنسا بصفة خاصة، وتوشك إن تحققت أن تفجر أوروبا بالكامل، ولهذا فالأرجح أن تستمر الحرب دون صلح نهائي، حتى وإن توقفت العمليات العسكرية بشكل مؤقت.
موازين القوى في مسارح العمليات في أوكرانيا أو في غزة، أو في إيران، لا تسمح بتحقيق نصر حاسم لأي من أطرافها، لكن تفاهمات بوتين وترامب قد تسمح في لحظة ما، بإنهاء الحرب الأوكرانية، دون سلام يحرر روسيا من أغلظ العقوبات الدولية المفروضة عليها.
سيناريوهات اللاسلم واللاحرب، تبدو مرجحة حتى نهاية رئاسة ترامب في العام 2028، ما لم يخرج ترامب من تحت قبعة "ماغا" (Make America Great Again) أرنباً جديداً يمسك بين أسنانه بورقة فترة رئاسية ثالثة، ما زالت أوهامها تداعب أحلام ترامب كلما غفا داخل طائرته الرئاسية الجديدة.
