ترامب... دون كيشوت السياسة الأميركية في آسيا

وائل عوادالاثنين 2025/10/27
ترامب في ماليزيا (Getty)
ترامب يوقع اتفاقية سلام بين تايلند وكمبوديا في كوالالمبور (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

توّج الرئيس الأميركي زيارته إلى دول "آسيان"، الأولى منذ توليه الدورة الرئاسية الثانية، بالإشراف على توقيع اتفاقية سلام بين تايلند وكمبوديا في العاصمة الماليزية كوالالمبور التي تستضيف القمة 47 لرابطة دول "آسيان". بدا ترامب أشبه بـ"دون كيشوت" السياسة الأميركية، يمتطي جواد الصفقات في معركةٍ لا تخلو من الرمزية. فالرجل الذي لا يخفي إعجابه بلقب "رجل الصفقات"، يسعى إلى لعب دور الوسيط بين تايلند وكمبوديا في نزاعهما الحدودي، مؤمناً بأن منطق الصفقات يمكن أن ينجز ما عجزت عنه الدبلوماسية التقليدية.

لكن هذه الوساطة، على بساطتها الظاهرة، تأتي في سياقٍ إقليمي معقد تتشابك فيه المصالح بين واشنطن وبكين، وسط سباقٍ محموم على النفوذ في جنوب شرق آسيا.

 

رجل السلام أم صانع الصفقات؟

لم يخفِ ترامب رغبته في أن يُنظر إليه كـ"رجل سلام"، إذ يرى في كل نزاع فرصة لإبرام صفقة، وفي كل أزمة ميداناً لاستعراض قدرته على التأثير. وخلال حضوره قمة "آسيان"، حاول أن يقدم الولايات المتحدة كقوةٍ قادرة على إعادة التوازن إلى المنطقة بعد سنواتٍ من التراجع النسبي، مستفيداً من القلق المتزايد لدى بعض الدول من تنامي النفوذ الصيني.

غير أن اندفاعه نحو "وساطة" جديدة في نزاعٍ آسيوي لا يخلو من التعقيد، بدا وكأنه محاولة لفرض حضور أميركي رمزي في منطقة تزداد فيها أوراق الصين السياسية والاقتصادية ثقلاً. هذا الواقع يجعل سعي واشنطن لاستعادة نفوذها مرهوناً بقدرتها على تقديم بدائل حقيقية وجذابة، تتجاوز لغة الشعارات إلى أفعالٍ ملموسة تعيد بناء الثقة وتؤكد التزامها بمصالح المنطقة.

 

بين الواقعية الآسيوية والطموح الأميركي

ورغم أن دول "آسيان" تُرحّب بالاستثمارات الأميركية، إلا أنها تحاول التزام الحياد الاستراتيجي بين القوتين العظميين، إذ تدرك أن مستقبلها الاقتصادي لا يمكن فصله عن الصين التي تُعد الشريك التجاري الأكبر لمعظمها. ومع ذلك، تشير التحركات الأميركية الأخيرة إلى سباق محموم لإعادة التموضع في قلب آسيا، حيث تُدرك واشنطن أن السيطرة على طرق التجارة وسلاسل التوريد في المنطقة تُعدّ مفتاح الصراع القادم على النفوذ العالمي.

ومن هنا، تواجه الولايات المتحدة تحدياً استراتيجياً واضحاً: أن تقدّم بدائل واقعية ومغرية توازي ما تطرحه الصين من نفوذ اقتصادي ومشروعات ضخمة، وإلا فإن شعاراتها حول الحرية والشراكة ستظل حبراً على ورق.

من جانب آخر، من المتوقع أن يلتقي زعيما القوتين العظميين، أميركا والصين، حيث يُتوقع أن يُركّز الاجتماع المرتقب بين ترامب وشي جين بينغ على القضايا المحورية في العلاقات التجارية الثنائية، في محاولة جديدة لتخفيف حدة التوترات الاقتصادية التي ألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي خلال الأشهر الأخيرة.

فبعد أن أعلنت الصين فرض ضوابط صارمة على تصدير المعادن النادرة – وهي المواد الحيوية لصناعات التكنولوجيا المتقدمة والرقائق الإلكترونية والطاقة النظيفة – تصاعدت المخاوف الأميركية من استخدام بكين لهذه المواد كسلاح جيو-اقتصادي في مواجهة العقوبات الأميركية المتزايدة. ومن المنتظر أن يحمل الاجتماع أبعاداً تتجاوز معالجة الخلافات التجارية المباشرة، ليشمل إعادة رسم خريطة التنافس الاقتصادي العالمي، خصوصاً في ظل سعي واشنطن إلى تنويع مصادر التوريد وتقليل اعتمادها على الصين في الصناعات الحساسة مثل أشباه الموصلات والمعادن النادرة والبطاريات الكهربائية.

 

دون كيشوت يطارد طواحين آسيا

ومثل دون كيشوت الذي حارب طواحين الهواء، يواصل ترامب اندفاعه في عالمٍ تتغير توازناته بسرعة، محاولاً إثبات أن أميركا ما زالت قادرة على قيادة المشهد. غير أن دول المنطقة، التي تعلم حدود القوة وتقرأ المشهد بعينٍ واقعية، قد لا تنخدع ببريق الشعارات أو وعود الصفقات. فبين واقعية آسيا وطموح واشنطن، يبقى ترامب الفارس الأميركي الذي يسعى وراء المجد، حتى وإن كانت الرياح لا تهبّ في الاتجاه الذي يشتهي.

إذا كان ترامب يمثل دون كيشوت السياسة الأميركية، فيمكن تشبيه رفيقه المرافق بـ"سانشو بانزا"، ذلك الرفيق البسيط والواقعي الذي يحاول موازنة اندفاع الفارس. في حالة ترامب، يترجم هذا الدور شخصيات مثل ماركو روبيو، الذي يسير خلفه في رحلاته ومهامه الدبلوماسية والتجارية، حاملاً على عاتقه عبء تنفيذ رؤية ترامب المتفائلة أحياناً والمغامرة أحياناً أخرى. روبيو هنا ليس مجرد مساعد، بل يمثل الصوت البراغماتي الذي يذكّر الفارس بأن العالم لا يخضع دوماً لخيال الصفقات، وأن الرياح الآسيوية لا تهبّ دائماً في الاتجاه الذي يشتهي ترامب. وهكذا يظل الثنائي مثالاً حياً على التناقض بين الحلم والطموح من جهة، والواقع والبراغماتية من جهة أخرى، في رحلة أميركية نحو إعادة رسم النفوذ في آسيا.

تشير زيارة ترامب لمنطقة الآسيان إلى أن الولايات المتحدة عازمة على العودة بقوة إلى المسرح الآسيوي، بعد أن أدركت أن غيابها النسبي خلال العقد الماضي سمح للصين بملء الفراغ الاستراتيجي عبر مبادرة "الحزام والطريق" وتوسيع نفوذها البحري والتجاري من بحر الصين الجنوبي حتى المحيط الهندي. وبالتالي، تسعى إدارة ترامب إلى استعادة زمام المبادرة عبر سلسلة من الاتفاقات التجارية والعسكرية الجديدة مع دول "آسيان"، إلى جانب طمأنة الحلفاء التقليديين مثل اليابان وكوريا الجنوبية، الذين شعروا بتراجع الالتزام الأميركي بأمنهم في ظل انشغال واشنطن بالملف الأوكراني والصراع مع إيران.

وتأتي هذه التحركات في سياق أوسع من إعادة تموضع استراتيجي أميركي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بهدف تشكيل طوق اقتصادي وأمني حول الصين يمتد من اليابان وكوريا إلى الهند وأستراليا، مروراً بدول "آسيان" الحيوية. فواشنطن تراهن على "تحالف المصالح" بدل التحالفات العسكرية التقليدية، وتسعى إلى بناء شبكة متداخلة من الشراكات الاقتصادية والأمنية تُبقي الصين محاطة بكتلة من الدول المتحالفة اقتصادياً وسياسياً مع الولايات المتحدة.

 

الهند بين واشنطن وبكين

في ظل التحركات الأميركية المتسارعة في جنوب شرق آسيا، تبرز الهند كلاعب محوري يسعى إلى تعزيز وجوده ضمن منظومة "آسيان"، من خلال رؤية استراتيجية تجمع بين الدبلوماسية الاقتصادية والتقارب الأمني. فزيارة الرئيس الأميركي للمنطقة تزامنت مع تحركات هندية مكثفة، هدفت إلى تعميق الشراكة مع دول "آسيان" عبر مشاريع في البنية التحتية والطاقة الرقمية والأمن البحري.

الهند، التي تُدرك حساسية التنافس الأميركي–الصيني في هذه المنطقة الحيوية، تتبنى سياسة "التوازن الذكي"؛ فهي من جهة تتعاون مع واشنطن في إطار تحالف "الرباعية" (QUAD) إلى جانب اليابان وأستراليا، لمواجهة التمدد الصيني في المحيطين الهندي والهادئ، ومن جهة أخرى تحافظ على قنوات الحوار المفتوحة مع بكين، نظراً للروابط الاقتصادية والجغرافية التي يصعب تجاوزها.

إن المشهد يصبح أكثر تعقيداً عند إضافة دبلوماسية الكاوبوي التي تمارسها واشنطن مع الحلفاء والأعداء على حد سواء. فكما في الغرب الأميركي القديم، تتراوح سياسات الولايات المتحدة بين تهديد صريح وابتزاز ضمني، وبين وعود مفاجئة وصفقات سريعة، في محاولة لإجبار الأطراف الإقليمية على الرقص على إيقاعها. هذه الدبلوماسية الصاخبة والاندفاعية تكمل صورة ترامب الفارس، الذي يمتطي صفقات السلام كما يمتطي جواد الصحراء، وسط عالمٍ آسيوي لا يستسلم بسهولة لطموحات القوة العظمى. وبذلك، يمتزج في المشهد بين خيال دون كيشوت، وواقعية سانشو بانزا، وصخب دبلوماسية الكاوبوي الأميركية، ليظهر التناقض الجوهري بين الرغبة في السيطرة وواقع التوازنات الإقليمية المعقدة.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث