منذ سقوط نظام بشار الأسد وصعود حكومة أحمد الشرع، تحول ملف المقاتلين الأجانب في سوريا من جبهة عسكرية مفتوحة إلى قضية سياسية–أمنية معقدة. فبينما تراجعت قدرة الفصائل العابرة للحدود على خوض معارك واسعة، ظلت كتلاً بشرية وتنظيمية متجذرة في إدلب ومحيطها، لتتحول إلى عبء على الحكومة الجديدة، وورقة ضغط في يد روسيا والصين والولايات المتحدة.
الإيغور: الكتلة الأكثر إرباكاً
ويُعتبر التيار الإسلامي التركستاني "TIP"، وهو الفرع الأويغوري للحركة الجهادية الناشطة منذ التسعينيات في أفغانستان وباكستان، أكبر تجمع أجنبي في سوريا اليوم. وصل مقاتلوه إلى إدلب منذ 2013، وجعلوا من جسر الشغور مركزهم الرئيس، مصطحبين آلاف العائلات.
وأشارت التقديرات الأممية بين 2017 و2020 إلى أن عدد مقاتلي التيار بلغ حوالي 3 إلى 4 آلاف، لكن العدد تراجع بحلول 2025 إلى نحو ألف إلى ألف و500 عنصر نشط، مع بقاء مجتمع أويغوري كامل في ريف إدلب. هذا الوجود لم يعد تهديداً عسكرياً كبيراً، لكنه تحول إلى ملف دبلوماسي يثير حرج دمشق. فالصين وروسيا تطالبان بتفكيك الحركة، فيما تسعى الحكومة السورية لإيجاد حلول وسطى، مثل الدمج المحدود، أو الترحيل، أو المحاكمات.
ولم تستهدف الولايات المتحدة "TIP " مباشرة هذا العام، لكنها تُراقب أي ارتباطات عملياتية بالقاعدة. في المقابل، ظهر مقاتلون إيغور قرب دمشق في نيسان/ أبريل 2025، ما كشف عن ترتيبات أمنية جديدة لنقلهم وإدارتهم بعيداً عن خطوط التماس التقليدية.
الأوزبك: تحت الرقابة
وتشكلت كتيبة "التوحيد والجهاد" من مقاتلين أوزبك وآسيويين منذ 2014، وشاركت في معارك إدلب ضمن تحالفات مع "جبهة النصرة" و"هيئة تحرير الشام". في سنوات الذروة، بلغ عددهم نحو ألف مقاتل، لكنهم تقلصوا اليوم إلى بضع مئات متناثرة.
وتركز وجودهم في إدلب وجسر الشغور، ومعظمهم يعيشون مع عائلاتهم في تجمعات صغيرة. وتدرس الحكومة السورية الانتقالية ضم بعض هؤلاء إلى تشكيلات الجيش الجديد تحت رقابة أمنية مشددة، وهو خيار تدعمه واشنطن ضمنياً كبديل عن المواجهة العسكرية.
أيديولوجياً، ارتبط الأوزبك بالقاعدة فكراً وممارسةً دون إعلان بيعة مركزية، ما جعلهم في نظر الولايات المتحدة أقل خطراً من فلول القاعدة المباشرين، لكنهم يبقون على لائحة المراقبة.
القوقاز: من إدلب إلى أوكرانيا
ومنذ 2015، لمع اسم "أجناد القوقاز" بقيادة عبد الحكيم الشيشاني، كفصيل شيشاني ركز على قتال الروس في ريف اللاذقية. لكن منذ 2022، غادر جزء كبير من عناصره إلى أوكرانيا للقتال ضد موسكو، فانحسر وجوده السوري إلى أقل من 200 مقاتل مع عائلاتهم.
اليوم، لم يعد الفصيل يشكل خطراً عسكرياً حقيقياً، لكن وجوده يُستخدم كورقة روسية في مواجهة دمشق. فموسكو تضغط على الحكومة الانتقالية لتصفية ملف المقاتلين القوقازيين، معتبرةً أن بقائهم على في محيط إدلب تهديد مباشر لأمنها.
"حُراس الدين": حل معلن وفلول قائمة
وأعلن تنظيم "حُراس الدين"، الذراع الأبرز للقاعدة في سوريا، في كانون الثاني/يناير 2025 حل نفسه. ورغم ذلك، أكدت الضربات الأميركية في شباط/فبراير لاحقاً أن قيادات وشبكات مالية لا تزال تعمل في إدلب.
وتعتبر الولايات المتحدة فلول "حُراس الدين" هدفاً رئيسياً، إذ نفذت غارات دقيقة ضد قيادات لوجستية. بالنسبة لدمشق، يمثل التنظيم تهديداً محدوداً لكنه مهم رمزياً فوجود أي شبكة مرتبطة مباشرة بالقاعدة يقوض جهودها لإقناع المجتمع الدولي بأنها تسيطر أمنياً على البلاد.
"أنصار الإسلام": رسالة أميركية مزدوجة
ونفذت طائرة أميركية في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2025، غارة على سيارة في ريف حارم شمال إدلب، أسفرت عن مقتل محمد عبد الوهاب الأحمد، الرجل الثاني في "تنظيم أنصار الإسلام". وصفته القيادة المركزية الأميركية بأنه "مخطط هجمات بارز تابع للقاعدة"، فيما رأت دمشق في الضربة "رسالة موجهة لكل الجماعات الرافضة للاندماج في الجيش الجديد".
ولا يتجاوز عدد مقاتلي أنصار الإسلام 250 مقاتل بحسب تقديرات محلية، لكنهم رفضوا الانضمام لأي إطار رسمي. لذلك تراهم دمشق خطراً رمزياً يجب تفكيكه، بينما تصنفهم واشنطن كجزء من منظومة القاعدة.
أنصار التوحيد: النهاية المحتومة
وخرج "أنصار التوحيد" من رحم "جند الأقصى" عام 2018، وظل على تماس مع القاعدة عبر غرفة "وحرض المؤمنين". وفي كانون الثاني/يناير 2025، أعلن الفصيل تفكيك نفسه بعد ضغوط عسكرية وأمنية. وانضم معظم عناصره إلى مجموعات أصغر مثل "أنصار الإسلام" أو "فرقة الغرباء"، بينما اعتُقل آخرون.
ولم يعد الفصيل قائماً ككيان منظم، لكنه يبقى في ذاكرة الأجهزة الأمنية كأحد "المخازن البشرية" التي تُفرخ فلولاً صغيرة.
علاقة دمشق وواشنطن
وتكشف الوقائع عن تقاطع مصالح بين دمشق وواشنطن في ملف المقاتلين الأجانب، حيث تستهدف واشنطن القيادات المرتبطة بالقاعدة عبر ضربات دقيقة، وتسعى دمشق لتفكيك الفصائل الرافضة وإعادة دمج القابلين، لإغلاق ملف الأجانب نهائياً. ويدرك الطرفان أن ترك الملف بلا معالجة قد يؤدي إلى إعادة إنتاج شبكات جهادية جديدة، كما حدث بعد سقوط "الخلافة الداعشية".
وبحلول أواخر 2025، لم يعد المقاتلون الأجانب في سوريا كتلة قتالية بحجم ما كانوا عليه في أعوام 2014–2017. لكنهم تحولوا إلى ملف تفاوضي–دبلوماسي حساس، حيث يثير الإيغور قلق الصين وروسيا، فيما يحتاج الأوزبك إلى إدارة حذرة لتفادي تحولهم إلى خلايا متناثرة، كما تحول القوقاز إلى ورقة بيد موسكو، وظل فلول القاعدة تحت مطرقة واشنطن.
ووسط كل هذه التعقيدات، تدرك الحكومة السورية الانتقالية أن الاعتراف الدولي بها يمر عبر السيطرة على هذه الجماعات، بينما ترى القوى الإقليمية والدولية أن مصير "المقاتلين الأجانب" هو اختبار حاسم لقدرة دمشق الجديدة على فرض سيادة الدولة.
