القواعد الروسية بسوريا.. من منصات حرب إلى بوابات إعمار؟

خاص - المدنالاثنين 2025/10/27
قاعدة حميميم روسيا (Getty).jpg
Getty
حجم الخط
مشاركة عبر

في أعقاب الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو، تتجه الأنظار إلى مستقبل القواعد العسكرية الروسية في سوريا، لا سيما قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية، اللتين شكّلتا ركيزة أساسية للوجود العسكري الروسي في الشرق الأوسط، منذ تدخل موسكو المباشر في الحرب السورية عام 2015.

الزيارة، التي وصفها مراقبون بأنها "حاسمة" و"معقدة"، لم تكن مجرد لقاء بروتوكولي، بل كانت محاولة من الطرفين لإعادة تعريف العلاقة في مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، وسط تساؤلات واسعة حول طبيعة التعاون الجديد، ومدى استعداد دمشق الجديدة لمنح روسيا استمرارية في استخدام أراضيها كمنصّة عسكرية لعمليات خارجية، خصوصاً في ظل تصاعد النشاط العسكري الروسي في إفريقيا ومناطق أخرى.

 

ما الذي أرادته روسيا من الزيارة؟

وفقاً لمصادر مطلعة على أجواء اللقاء الذي جمع الشرع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الكرملين، فإن روسيا دخلت المحادثات وهي تحمل أجندة واسعة، تشمل ملفات سياسية وأمنية واقتصادية، لكن في قلب هذه الأجندة، برزت قضية القواعد العسكرية كأحد أبرز البنود المطروحة.

الشرع، الذي بدا عليه الإرهاق الشديد خلال لقائه مع الجالية السورية في موسكو، أشار بوضوح إلى أن بلاده "تريد تصفير العلاقات مع كل دول العالم، بما فيها روسيا، لبدء مرحلة جديدة من التنمية وإعادة الإعمار".

لكنه في الوقت نفسه، أكد أن سوريا "دولة ذات سيادة ولا تبعية لأحد"، ملمّحاً إلى أن أي اتفاق جديد يجب أن يراعي هذا المبدأ.

 

هل ستبقى القواعد منطلَقاً للطائرات الحربية الروسية؟

هنا، يبرز سؤال جوهري: هل ستسمح القيادة السورية الجديدة لروسيا باستخدام قاعدة حميميم كمنصّة لشنّ غارات جوية على مناطق خارج سوريا، كما فعلت سابقاً في ليبيا أو حتى في أوكرانيا بشكل غير مباشر؟

الإجابة، وفقاً لتصريحات مسؤولين سوريين، تميل إلى النفي، فقد صرّح وزير الخارجية السورية أسعد الشيباني، في مقابلة تلفزيونية، أن "الاتفاقيات الموقعة بين روسيا والنظام المخلوع معلّقة تماماً، ولن نقبل بها"، مشيراً إلى أن "التعامل مع روسيا كان تدريجياً، ولم تُبرم أي اتفاقيات جديدة".

في هذا السياق، يذهب مراقبون إلى أن الخيار الأرجح هو تحويل قاعدتي حميميم وطرطوس، من منصّات عسكرية إلى مراكز لوجستية وإنسانية تُستخدم في دعم جهود إعادة الإعمار.

ويُنظر إلى هذا التحوّل كحل وسط يحفظ ماء الوجه للطرفين: فروسيا تحتفظ بوجود رمزي في سوريا، بينما تضمن دمشق عدم استخدام أراضيها كمنصّة لحروب إقليمية أو دولية قد تُعرضها لمخاطر أمنية أو سياسية جديدة.

 

إدارة مشتركة!

ويُعتقد أن الإدارة المستقبلية لهذه القواعد ستكون "مشتركة"، بحسب ما أشار إليه مسؤول سوري رفيع المستوى، بحيث لا يكون للروس السيطرة الكاملة عليها، بل يقتصر دورهم على التنسيق الفني واللوجستي ضمن إطار مدني.

وقال الخبير بالشأن الروسي، الدكتور محمود الحمزة لـ "المدن"، إن "وجود القوات العسكرية الروسية في سوريا يُعدّ من أبرز الملفات، إلى جانب قضية تسليم بشار الأسد، وهذان الملفان يُشكّلان العقدتين الأكبر في العلاقات الروسية السورية حالياً، أما فيما يخص الوجود العسكري الروسي، فهو الآن في حالة شبه مجمدة، لكن الروس بدأوا بنقل نشاطهم إلى مطار القامشلي، الذي يُعتبر قاعدة روسية أيضاً".

وأضاف أنه "بالنسبة لقاعدتي حميميم وطرطوس، فقد تسرّبت في الآونة الأخيرة تسريبات حول مصيرهما، بل وصرّح الرئيس الروسي نفسه بأنه من الممكن تحويل هاتين القاعدتين إلى مراكز دعم إنساني، أي أن القاعدتين ستتخلّيان تدريجياً عن طابعهما العسكري، ولن تنطلق منهما طائرات عسكرية إلى دول أخرى، لأن ذلك يُعدّ انتهاكاً لسيادة سوريا، وقد يُستخدم كذريعة لاتهام سوريا بالسماح باستخدام أراضيها ضد جيرانها".

وأشار إلى أن هذا التوجّه يُظهر أن سوريا لم تعد تتمسّك بالتحالف الاستراتيجي السابق مع روسيا كما كان في السابق، وهو أمرٌ مستبعد حالياً نظراً لوجود مشاكل كبيرة وملفات عالقة بين الطرفين، منها: مسألة الديون الروسية على سوريا، الاتفاقات الاقتصادية الموقّعة بين البلدين وطبيعة التعاون الأمني والعسكري المستقبلي، ومن المقرّر أن تُناقَش هذه القضايا ضمن لجنة حكومية مشتركة".

ورجّح أن "تُعاد هيكلة القواعد"، وقال: "سيتمّ التوصّل إلى اتفاق دقيق جداً بين الطرفين يحدد بوضوح: مهمة هذه القواعد، حدود صلاحياتها، عدد الكوادر العسكرية الروسية المسموح بوجودها وطبيعة الإدارة المشتركة". واعتبر أنه "في حال بقي هناك وجود روسي في القاعدتين، فستكون إدارتهما مشتركة بين الجانبين السوري والروسي".

 

العقدة الأصعب

لكن القواعد العسكرية ليست وحدها على طاولة النقاش. فقد كشفت مصادر مطلعة أن الشرع طرح خلال لقائه مع بوتين ملف "العدالة الانتقالية" بشكل صريح، متضمناً مسائل تسليم بشار الأسد ورفاقه، واسترداد الأموال المهربة، بل وحتى مطالبة روسيا بالمساءلة عن جرائم ارتكبتها قواتها خلال الحرب، بما في ذلك القصف العشوائي على مناطق مدنية.

هذا الملف، رغم أهميته الأخلاقية والسياسية، يصطدم بواقع أن سوريا اليوم دولة "هشّة"، بحسب وصف الشرع نفسه، وتحتاج إلى دعم خارجي عاجل لإعادة بناء ما دُمّر. ومن هنا، تظهر المفارقة: كيف يمكن لمطالبة روسيا بالمساءلة أن تتم في وقت تحتاج فيه دمشق إلى موسكو لدعمها في مجلس الأمن، خصوصاً في مواجهة مشروع قرار أميركي قد يهدّد شرعية الدولة الجديدة؟

 

الرهان على الشرق

في الخلفية، تبدو زيارة الشرع إلى موسكو جزءاً من استراتيجية أوسع تتبناها القيادة السورية الجديدة، تتمثل في "فتح نوافذ نحو الشرق"، بعد أن أدركت أن الرهان الكامل على الغرب قد لا يُجدي نفعاً، خصوصاً في ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي على الأراضي السورية، وغياب أي موقف غربي فاعل لوقفه.

وقد عبّر الشرع عن ذلك بوضوح حين قال: "لا يمكننا ترك أبواب مفتوحة تهدّد مستقبلنا"، وهو ما يفسّر أيضاً لماذا تسعى دمشق إلى توازن دقيق بين المطالبة بالعدالة وبين الحفاظ على علاقات عملية مع القوى التي لا تزال تملك نفوذاً على الأرض.

ووصف المحلل السياسي الروسي ديمتري بريدجة، زيارة الشرع إلى موسكو، بأنها "كانت محطة مفصلية حملت في طياتها مفاجآت مدروسة، ورسائل دقيقة تعكس التحول الكبير في موازين العلاقة بين دمشق وموسكو".

وحول مصير القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس، قال بريدجة لـ"المدن"، إن المعطيات تؤكد أن الرئيس الشرع "لن يُقدم على أي خطوة تمسّ السيادة الوطنية السورية، لكنه في الوقت ذاته يدرك أن بقاء روسيا في سوريا أمر حيوي لأمن واستقرار البلاد".

أما عن وظيفة القاعدتين، فالمرحلة المقبلة ستشهد تحولاً في طبيعة مهامهما، إذ يتجه التفكير، بحسب بريدجة، إلى تحويلهما إلى مراكز لوجستية وإنسانية. ورأى أن هذه الخطوة، إن تمّت كما يُخطط لها، ستعني أن موسكو تتحول من قوة تدخل إلى قوة استقرار وتنمية، وهو ما يريده الشرع تماماً، حسب قوله.

وحسب ديمتري: "الشرع وفق ما رشح من أوساطه يريد روسيا، ويريدها بقوة، لكنه يريدها شريكاً لا وصياً، ويريد أن تبقى القواعد الروسية في طرطوس وحميميم ولكن في خدمة مشروع سوري شامل".

وحتى اللحظة، لا يوجد اتفاق مُعلن بين دمشق وموسكو حول مستقبل القواعد العسكرية، وكل ما في الأمر أن الطرفين دخلا مرحلة "مفاوضات حساسة"، تتقاطع فيها المبادئ مع المصالح، والماضي مع المستقبل.

وما يُجمع عليه المراقبون هو أن سوريا الجديدة لن تكرّر أخطاء الماضي، ولن تسمح بأن تُستخدم أراضيها كجسر لحروب لا ناقة لها فيها ولا جمل.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث