بين متحفظ وآخر متفاجيء، وطرف ثالث مرحب بحذر، انشغل الرأي العام العراقي كثيراً بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعيين مبعوث خاص له في العراق.
لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، بل تعداه كثيراً خاصة وأن الشخص الذي تمت تسميته للمنصب، وإسمه مارك سافايا، لا يعرف عنه تاريخاً سياسياً يتناسب ومنصب المبعوث الخاص.
لا يعرف كثيراً عن الرجل. كل ما يعرف عنه أنه مسيحي كلداني من أصول عراقية. ولد في العام 1985 في محافظة نينوى وتحديداً في سهل نينوى حيث يقطن عدد كبير من المسيحيين هناك. هاجرت عائلته إلى الولايات المتحدة بعد سنوات من ولادته. عمل في الولايات المتحدة في زراعة مادة القنب (الماريوانا)، المسموح بزراعتها في ديترويت كبرى مدن ولاية مشيغن حيث يسكن، والتي تعتبر واحدة من الولايات القليلة جداً في أميركا التي تسمح بزراعة هذه المادة على خلاف العديد من الولايات الاُخرى التي تحرمها. مكنته هذه التجارة من تحقيق ثروة كبيرة خلال فترة قصيرة.
لعب سافايا دوراً مهماً في فوز ترامب بالإنتخابات من خلال تمويل حملته الإنتخابية وحركة "ماغا" (لنجعل أميركا عظيمة مرة اُخرى) بملايين الدولارات. نجح الرجل في حشد أصوات الناخبين وخاصة العرب والمسلمين في ولاية ميشيغان، وألتي تعتبر واحدة من الولايات المتأرجحة، التي يعني الفوز بأصواتها تطوراً مهماً وحاسماً في الانتخابات الأميركية.
لماذا مبعوث خاص؟
تسمية مبعوث خاص للعراق ليس سابقة. فالرئيس الأميركي لديه حالياً أكثر من مبعوث خاص في المنطقة وخارجها، لبنان وسوريا مثالاً.
يمثل المبعوث الخاص حاجة خاصة وملحة للرئيس الأميركي. فهو يأتي في مرتبة خاصة ومهمة يعتقد كثيرون أنها قد تتفوق أحياناً على منصب السفير. ويرتبط المبعوث الخاص بالرئيس مباشرة ويأخذ تعليماته منه دون الحاجة للمرور بحلقات اُخرى قد تفرضها بيروقراطية مؤسسات الدولة. وتكون الحاجة للمبعوث الخاص أمراً ضرورياً في الدول التي تعيش أزمات حقيقية وتحتاج معالجتها إلى أدوات وسياقات خارج الأطر الدبلوماسية. والأهم أن عملية تعيين مبعوث خاص للرئيس لا تحتاج إلى موافقة الكونغرس.
من هو سفايا؟
برز إسمه فجأة في مفاوضات إطلاق سراح المختطفة اليهودية من أصول روسية إليزابيث تورسكوف قبل نحو شهرين، والتي إختطفتها مجموعة مسلحة وسط بغداد يعتقد أنها تابعة لكتائب "حزب الله" العراقية منتصف العام 2023.
تقول مصادر عراقية إن هذه المفاوضات مكنت سافايا من لقاء العديد من القيادات السياسية في بغداد من بينها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وأيضاً قادة فصائل مسلحة، وهو ما ساعده في تكوين علاقات مهمة ومباشرة مع عدد من قادة هذه الفصائل.
وفي تصريحات مُلفتة تعكس علاقات الرجل بمراكز القوة في الداخل العراقي، وصف السياسي العراقي عزت الشابندر، والذي يوصف بأنه عراب الصفقات للدولة العراقية، وصف سافايا في تصريحات متلفزة بأنه أصبح "صديق للفصائل (المسلحة) وأنه فاوضهم بلطف، وأن إطلاق سراح تورسكوف برمته جرى بدون أي ضغوطات". وزاد الشابندر بالقول محاولاً إظهار متانة العلاقة التي تجمعه بقادة هذه الفصائل، إن عملية إطلاق سراح تورسكوف كانت "عربون حسن نية" تم تقديمه من قبل الخاطفين لسافايا.
ماذا يريد ترامب من العراق؟
قد يكون من الصعب جداً معرفة على وجه الدقة ماذا يريد ترامب وإدارته من العراق. فهذه الإدارة لم تتحدث ومنذ وصولها للسلطة عن الملف العراقي باعتباره ملفاً مستقلاً بحد ذاته ولكنها كانت تتناوله باعتباره جزءاً من الملف الإيراني وإمتداته في المنطقة.
هذا الانطباع الذي يزعج كثيرين في العراق يدفع إلى التساؤل، ما الذي يسعى ترامب إلى تحقيقه من تعيين مبعوث خاص له للعراق وخاصة في هذا التوقيت؟ وماذا يريده من العراق؟ وهل أن الإدارة الأميركية قد غيرت أولوياتها تجاه العراق مؤخراً؟
إن تعيين مبعوث خاص للعراق لا يعني بالضرورة أن الملف العراقي أصبح أولوية للإدارة الأميركية ولترامب بالذات. لكن الذي لا يمكن تجاهله هو أن هذه الإدارة لا تزال تضع ملف إيران كأولوية لها. ومن بين أهم ما يتضمنه هذا الملف هو النفوذ الإيراني في المنطقة. هذا النفوذ الذي تداعى كثيراً ولم يعد له موطئ قدم غير العراق الذي بات يمثل آخر قلاع هذا النفوذ، خاصة بعد تراجعه وتحجيمه كثيراً في لبنان وإنهائه في سوريا. وهنا تبرز أهمية العراق لدى الإدارة الأميركية، التي لا تزال تصريحاتها تعكس وقوفها ضد أي تطلعات إيرانية خارج حدودها تتعلق بالنفوذ والهمينة وتتعارض مع مصلحة الأميركية.
إن الإدارة الأميركية لا تزال تعبر عن إنزعاجها الشديد من التغلغل الإيراني في العراق، هذا الموقف الواضح يؤكده بإستمرار العديد من المسؤولين الأميركان.
في آخر تصريح للرئيس ترامب بشأن العراق وخلال مؤتمر شرم الشيخ الذي تمت فيه صياغة إتفاق وقف إطلاق النار في غزة قبل نحو إسبوعين، قال ترامب وهو يقدم رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني كأحد المشاركين بالمؤتمر: "معنا في هذا المؤتمر العراق الذي يمتلك الكثير من النفط ولا يعرفون (العراقيون) ما يفعلون به."
تصريحات الرئيس الأميركي لا يمكن النظر إليها بمعزل عن تصريحات وزير خارجيته الذي طالب وخلال إتصال هاتفي مع رئيس الوزراء قبل أيام، بضرورة إتخاذ "إجراءات سريعة لنزع سلاح المليشيات المدعومة من إيران."
وهكذا، يمكن القول إن هذين الموقفين للرئيس ووزير خارجيته، حددا بشكل واضح ماتريده الإدارة الأميركية من العراق، وأيضاً الطريقة التي ستتعامل معها مستقبلاً مع حكومة بغداد، وهي أن ثنائية الاقتصاد وخاصة النفط، وإنهاء ظاهرة السلاح خارج سيطرة الدولة من خلال تفكيك الفصائل المسلحة، هما الهدفان اللذان يؤطران شكل العلاقة التي تسعى الإدارة الأميركية إلى تحقيقها للتعاطي مع عراق يمكن التعامل معه مستقبلاً. وهي أهداف لا يمكن النظر إليها بمعزل عن طبيعة وشكل مهمة المبعوث الخاص الذي يتوقع وصوله إلى بغداد قريباً.
سيناريوهات المرحلة المقبلة
إن عراقاً يمكن أن يمثل أولوية أميركية يمكن التعامل معه وجعله يرتقي إلى مستوى الحليف الإقتصادي يعني فيما يعنيه أن العراق يجب أن يكون خالياً من السلاح المنفلت وبلا فصائل مسلحة ترفض الإنصياع لأوامر الدولة.
إن تفكيك هذه الفصائل وإنهاء دورها من المشهد العراقي سيبقيه أولوية لأميركا وأيضاً للعديد من دول أوروبا. هذا السيناريو قد يمثل شكل المرحلة المقبلة التي يتوقع أن سافايا سيعمل على تحقيقها وهو في هذه الحالة سيكون مطالباً بإجراء إصلاحات سياسية بنيوية على مستوى الدولة العراقية تساهم في تحقيق هذا الهدف. وهذا بحد ذاته سيكون تحدياً كبيراً لسافايا الذي قد لا تؤهله خبرته السياسية لمواجهة متطلبات هكذا ملف، وهو بهذا سيكون بلا شك بحاجة إلى فريق من المستشارين المتمرسين للعمل معه، ولا يستبعد أن يكون معهم عناوين عراقية مهمة.
لكن ما قد تخفيه النوايا والتصريحات الرنانة هو أن تكون تسمية سافايا لهذه المهمة لا تعدو كونها مكافأة له عن دوره في فوز ترامب بالإنتخابات. وقد يكون أيضاً في دعمه هدفاً لترامب وإدارته، لتمكينه في أن يكون أحد الممولين المهمين الحاليين والمستقبليين لحركة ماغا. هذا الإحتمال، وإن كان ضعيفاً، لكنه يعني أن مهمة سافايا ستكون عبارة عن إبرام صفقات تجارية عنوانها إصلاح الإقتصاد العراقي وحقيقتها جمع المال من خلال إشراك شركات أميركية في مشاريع إقتصادية كبيرة سيكون في مقدمتها النفط والطاقة. وهذا يعني إبقاء الوضع العراقي السياسي والأمني على ماهو عليه مع بعض التغييرات الطفيفة التي سيكون هدفها المساعدة في تحقيق هذه الغايات.
أخيراً، فإن توقيت الإعلان عن تعيين سافايا لا يمكن النظر إليه بمعزل عن تطورات الأحداث التي تشهدها البلاد حالياً حيث بدأ العد التنازلي لإجراء الإنتخابات البرلمانية. هذه الإنتخابات ستحدد شكل العملية السياسية للمرحلة المقبلة وستحدد أيضاً شكل الحكومة الجديدة التي ستكون مضطرة للتعامل مع سافايا، والذي لا يُستبعد أن يلعب هو دوراً مهماً في تشكيلها وتحديد من هو رئيس الوزراء العراقي القادم الذي ستكون واشنطن مستعدة للتعامل معه، وعلى حساب الحليف الايراني.
