عودة بتوقيت محسوب: مناف طلاس يرسم ملامح سوريا ما بعد الحرب

دمشق - رهام عليالأحد 2025/10/26
مناف طلاس
طلاس يظهر في لحظة شديدة الحساسية (إنترنت)
حجم الخط
مشاركة عبر

في الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر 2025، عاد العميد السوري المنشق مناف طلاس إلى الواجهة السياسية بعد غياب دام سنوات، عبر محاضرة ألقاها في كلية العلوم السياسية بجامعة "سيانس بو" في باريس أمام جمع من أبناء الجالية السورية في فرنسا وصحافيين فرنسيين وأوروبيين، وقامت الجامعة بنشر نص المحاضرة اليوم الأحد.

اللقاء الذي وُصف بأنه "أكثر من محاضرة وأقل من إعلان سياسي" مثّل، في جوهره، عرضاً لرؤية طلاس حول مستقبل سوريا بعد سقوط النظام في كانون الأول/ ديسمبر 2024، ومحاولة لطرح مقاربة جديدة لمفهوم الدولة والسلطة والعلاقة بين المجتمع والمؤسسة العسكرية.

 

عودة محسوبة بتوقيت دقيق

اختار طلاس العودة إلى الظهور في لحظة شديدة الحساسية من تاريخ سوريا، بعد انهيار النظام ودخول البلاد في مرحلة انتقالية مضطربة. أشار في بداية حديثه إلى أن قراره لم يكن سهلاً، نتيجة ما وصفه "بالتناقضات الحادة والانقسامات العمودية التي يعيشها السوريون اليوم"؛ إذ يرى أن المشهد الحالي غير مسبوق في تاريخ البلاد، وأن الاصطفافات الطائفية والسياسية العميقة جعلت السوريين أمام مسؤولية تاريخية لبناء وطن جديد يقوم على الشراكة لا الإلغاء، وفق تعبيره.

وقدّم طلاس سرداً تاريخياً لمسار الدولة السورية منذ انهيار السلطنة العثمانية وحتى استيلاء حزب البعث على الحكم في العام 1963. واعتبر أن الفرنسيين والبريطانيين قد فرضوا النظام الجمهوري على مجتمعات كانت ذات بنية تقليدية "أبوية وملكية الطابع"، وهذا ما أدى إلى اهتزازات سياسية متكررة وانقلابات متتالية.

وبرأيه، تبنّى حزب البعث نموذج الحكم "الملكي المقنّع" عبر شخصنة السلطة، وتمكّن من الاستمرار خمسين عاماً على أساس الولاء الشخصي والعائلي، إلى أن جاءت الثورة السورية في العام 2011 لتفتح الباب أمام صراع طويل بين منطق الدولة ومنطق السلطة.

 

محاولة إنقاذ المؤسسة العسكرية

استعاد طلاس مرحلة انشقاقه في العام 2012، موضحاً أنه حاول آنذاك الحفاظ على المؤسسة العسكرية كوطنية جامعة، عبر تشجيع ضباط من مختلف الطوائف على الانشقاق المنظّم. لكنه أقرّ بفشل محاولاته نتيجة تعقيدات الداخل، وتحوّل الثورة نحو مسارات دولية وإقليمية متشابكة، خصوصاً بعد تشكيل المجلس الوطني السوري.

ورأى طلاس أن اللحظة التي أصبحت فيها للثورة قيادة سياسية واضحة كانت بداية فقدانها استقلالها في أواخر العام 2011؛ إذ تحوّلت تدريجياً إلى ساحة لتصفية المصالح الدولية.

في السياق، تطرّق طلاس إلى لحظة سقوط النظام في كانون الأول 2024، معتبراً أن ما جرى كان نتيجة خلل في التفاهمات الإقليمية لا بسبب قوة المعارضة أو ضعف النظام. 

وأوضح أن تركيا لعبت الدور الحاسم في تسريع هذا السقوط بعد شعورها بتنامي مشروع الانفصال في شمال شرق سوريا، فدفعت باتجاه تغيير المشهد بالكامل. ومع الانهيار، وجد المجتمع الدولي نفسه مضطراً لتبنّي الأمر الواقع واحتواء تداعياته.

محور حديث طلاس الأساسي كان حول ضرورة تشكيل مجلس عسكري وطني يوحّد القوى المسلحة السورية على أسس مهنية لا طائفية. إذ دعا إلى دمج ضباط منشقين من مختلف الانتماءات مع عناصر من قوات سوريا الديمقراطية وفصائل الجنوب والساحل ضمن جيش وطني جديد بعقيدة علمانية.

واعتبر أن إعادة بناء الجيش هي الشرط الأول لتحقيق الاستقرار والأمان والعدل؛ أي الركائز الثلاث لأيّة دولة حديثة. كما شدّد على ضرورة نقل جزء من صلاحيات الرئاسة إلى المجلس العسكري خلال المرحلة الانتقالية، لضمان توازن السلطات ومنع إعادة إنتاج الاستبداد.

 

القرار 2254 بوصفه منطلقاً للمرحلة المقبلة

كذلك، رأى طلاس في حديثه، أن القرار الأممي 2254، الذي أُعيد تفعيله بدعم من الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية، يمثل الإطار الواقعي لبدء عملية سياسية جديدة، على أن يخضع لتعديلات تعكس المتغيرات بعد سقوط النظام. فبالنسبة له، هذا القرار يمكن أن يكون قاعدة دستورية مؤقتة لإطلاق دستور جديد وانتخابات حرة بإشراف دولي.

أما في الشق الاقتصادي، فقد شدّد طلاس على أن الثقة هي الأساس لأي نهوض اقتصادي، وأن غياب العدالة والقضاء النزيه يمنع أيّ استثمار جدي. 

ودعا إلى بناء نظام قضائي مدني يضمن المحاسبة والحقوق، مشيراً إلى أن العدالة الانتقالية يجب أن تكون "عملية واقعية لا شعاراتية"، تُهيّئ المجتمع لمرحلة بناء مؤسسات حقيقية بدلاً من تشكيل لجان شكلية بلا نتائج.

وتوقّف طلاس عند أوضاع اللاجئين السوريين، مشيراً إلى أن الأولوية يجب أن تُمنح للسوريين في لبنان وتركيا والأردن عبر خطط إغاثية عاجلة وظروف عودة آمنة، في حين ستكون عودة الجاليات في أوروبا أبطأ بحكم استقرارها هناك. وربط نجاح العودة بوجود أمان وعدالة ومؤسسات قادرة على استيعاب المواطنين من جديد، معتبراً أن "الثقة المفقودة" هي التحدي الأكبر أمام الدولة المقبلة.

 

في العلاقات الإقليمية والدولية

وقدّم طلاس قراءة هادئة لتشابك القوى الإقليمية والدولية بعد سقوط النظام، معتبراً أن ما يجري هو عملية إعادة ضبط لتوازنات النفوذ أكثر مما هو صراع مفتوح. وأكد أن على السوريين استغلال اللحظة التاريخية الحالية لبناء توافق وطني يمنع الخارج من فرض أجنداته.

ودعا أيضاً، إلى أن تتجه سوريا نحو الفضاء العربي مجدداً، وتبتعد عن الارتهان للمحاور التركية والإسرائيلية، معتبراً أن إعادة تموضعها العربي هو مطلب دولي وإقليمي في آن واحد.

وعن العلاقة بين سوريا ولبنان، اعتبر طلاس أنها بحاجة إلى إعادة تعريف جذرية بعد عقود من التداخل السياسي والأمني. وأشار إلى أن البلدين يمتلكان نسيجاً اجتماعياً متقارباً ومكونات متشابهة، وهذا ما يجعل العلاقة بينهما طبيعية وعميقة، لكن يجب أن تُدار وفق منطق الدول لا الأفراد.

كذلك، شدّد على أهمية معالجة ملفات حساسة كترسيم الحدود، والتعاون الاقتصادي، ومصير المعتقلين، ضمن إطار مؤسساتي وقانوني واضح، موضحاً أن العلاقة المستقبلية يجب أن تقوم على الندية والاحترام المتبادل، بعيدًا عن إرث الوصاية الذي طبع العلاقات السابقة، "فبناء دولتين صحيحتين هو الطريق الوحيد لعلاقة صحية ودائمة بين البلدين"، وفق قوله.

 

الإسلام السياسي والسلام مع إسرائيل

بالتوازي مع ذلك، تناول طلاس موضوع الإسلام السياسي، مؤكداً أنه يفضل النموذج الصوفي المعتدل على أيّة صيغة دينية حزبية تسعى إلى السيطرة على الدولة. ورأى أن وجود أحزاب إسلامية في الحياة السياسية أمر طبيعي، شرط ألا تفرض عقيدتها على مؤسسات الدولة.

أما بما يتعلق بفكرة التطبيع مع إسرائيل، فاعتبرها سابقة لأوانها، لأن السلام لا يُبنى بين طرف قوي وآخر ضعيف؛ بل على أساس التوازن والندية، مشيراً إلى أن أي حديث عن سلام قبل بناء جيش وطني وسيادة مستقلة هو مجرد فرض أمر واقع لا اتفاق متكافئ.

محاضرة مناف طلاس في باريس شكّلت عودة سياسية لافتة بعد أعوام من الغياب، لم تكن دعوة إلى السلطة بقدر ما كانت محاولة لإعادة تعريف فكرة الدولة في سوريا الجديدة، فحديثه جاء بلغة تجمع بين التحليل العسكري والرؤية السياسية، وبنبرة توحي برغبة في استعادة مفهوم الوطن من فوضى الاصطفافات.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث