ضباط نظام الأسد يتخوّفون من استلام الهويات المدنية

خاص - المدنالأحد 2025/10/26
جنود وضباط الأسد المخلوع خائفون من البطاقات المدنية (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

يحمل "س.ع" بطاقته العسكرية كضابطٍ سابق في الجيش السوري، مثل كثيرين من زملائه الذين خدموا في صفوف الجيش خلال عهد النظام البائد. لم يكن يملك  هويةٍ مدنية، إذ كان الجنود والضباط يسلمون هوياتهم المدنية إلى الجهات المختصّة، ويعتمدون في تنقّلاتهم على بطاقاتهم العسكرية.
تلك البطاقة، التي كانت مجرّد وثيقة تعريف، تحوّلت تدريجياً إلى "بطاقة عبور" تمنح امتيازاتٍ عند الحواجز العسكرية، وتُستخدم أحياناً كدرعٍ أو وسيلة نفوذٍ أمام بعض المنتفعين والمستغلّين للسلطة.
لكن مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، تبدّلت المعادلة. فقد وجد كثيرٌ من عناصر وضباط الجيش أنفسهم إما محتفظين بهوياتهم العسكرية فقط، أو بلا أي وثائق إطلاقاً، بعدما فُقدت أو ضاعت وسط تسارع الأحداث التي أطاحت بالرئيس المخلوع بشار الأسد.


واقع جديد
في هذا الواقع الجديد، يعيش "س.ع" حالةً يومية من التردّد. يحمل بطاقته العسكرية ويتوجّه نحو مراكز التسوية، بحثاً عن مخرجٍ يحميه من الملاحقة أو العنف، وهو في الوقت ذاته، يخشى عواقب الرفض. قصصٌ مشابهة تتكرّر كثيراً، فعدد من الضباط الذين فرّوا إلى العراق أثناء السقوط عادوا إلى سوريا ليجدوا أنفسهم عرضةً للاعتقال والتحقيق، قبل أن يُفرج عن بعضهم، ويُنقل آخرون إلى سجونٍ في مناطق مثل محافظة إدلب.
وسط هذا المناخ الملبّد، لا تقتصر المعضلة على مسألة الهوية فحسب. فالمخاوف الأعمق تتعلّق بشروط التسوية نفسها، إذ تتطلّب في الغالب تسليم السلاح ــ ذلك السلاح الذي تخلّى عنه بعض الضباط أثناء "السقوط السريع" للمواقع العسكرية منهم من رمى سلاحه ومنهم من سلمه  لإدارة القيادة العسكرية الجديدة. لذا، يجد بعضهم نفسه اليوم مضطرّاً للتفكير في شراء سلاحٍ بديل لتسليمه.
هكذا، تتحوّل رحلة البحث عن هوية قانونية وأمنية إلى مأزقٍ يومي يهدّد استقرار الأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواء، لتغدو البطاقة كابوساً يُنغّص حياته، رغم أنها لم تكن يوماً، في معناها البسيط، ورقةً تُخيف أحداً.
كانت، في الذاكرة البعيدة، ورقةَ حياةٍ ــ تفتح باب مدرسة، أو معبراً، أو نافذةً لإتمام معاملة زواج.
لكن في سوريا السابقة، حيث يتحوّل كلّ ما هو مدنيٌّ إلى ظلٍّ أمنيّ، كانت الهوية مرادفاً لعودة الطاعة، واستلامها أشبه بتوقيع عقدٍ غير مرئيٍّ مع الجهة التي هجرتَها ذات يوم، ثم سامحتك ظاهرياً، فقط لتراك من جديد من وراء الزجاج. فالهويّة التي كانت تُعرّف الإنسان في سائر البلدان، صارت هنا تُعرّف مدى ولائه.


أصل الحكاية
في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2025، نشرت وزارة الداخلية السورية الجديدة إعلاناً على صفحاتها الرسمية قالت فيه إن قيادة الأمن الداخلي في محافظة اللاذقية بدأت تسليم البطاقات الشخصية المدنية للعناصر الذين أجروا عمليات التسوية، محددةً يوم 24 من الشهر موعداً رسمياً للبدء.
الإعلان بدا في ظاهره روتينياً: إجراء إداري بجدول زمني واضح وأقسام شرطة محددة. لكن خلف اللغة البيروقراطية الهادئة، كان الخبر كافياً لإعادة الخوف إلى صدور المئات ممن "سوّوا أوضاعهم" في الأشهر الأخيرة.
بعد ساعات فقط، خرجت صفحات معارضة للنظام الجديد لتنفي الخبر تماماً، قائلةً إن "لا تسليم للهويات عبر الشرطة، وإنّ ما يُنشر هو تضليل هدفه تلميع صورة النظام"، مؤكدة أن تسليم البطاقات ــ إن حصل ــ سيتم فقط في مباني دوائر النفوس وليس في أقسام الأمن.
الذين خاضوا الحرب باسم الدولة ثم خضعوا للتسوية، باتوا يرون أن "الورقة" ــ أي ورقة ــ يمكن أن تكون فخاً مغلّفاً بالشكل القانوني، فاستلام الهوية يعني رسمياً أنه يمكن محاسبتك على ماضيك، أو مراقبتك عبر سجلّك الجديد.
الهويّة، في نظرهم، ليست استعادةً للاعتراف المدني، بل تهديداً لهم "كل مواطنٍ ملفّ، وكل اسمٍ رقم في قاعدة بيانات".
وبحسب تقرير صادر عن منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة"، "فإن عشرات الأفراد الذين خضعوا لتسوياتٍ أمنية في مناطق سيطرة الحكومة السورية، تعرّضوا لاحقًا للاعتقال أثناء مراجعتهم الدوائر الحكومية لتجديد وثائقهم المدنية".
في مثل هذا المناخ، يصبح الخوف من الهوية إلى حد ما نوعاً من الخوف من الدولة نفسها فمنذ أن تحوّل السوري إلى رقمٍ في سجل، صار البقاء مجهولاً نوعاً من النجاة.


حسن نية 
مصادر في الإدارة السورية الجديدة أكدت أن عمليات التسوية لا تزال جارية "لفترة محدودة"، وهدفهاــ كما تقول ــ ضبط السلاح ومتابعة ملفات الخاضعين للتسوية، ودراستها قبل اتخاذ القرارات النهائية بحقهم.
كما لم تستبعد المصادر تمديد عمل مكاتب التسوية، مع تأكيدها أن باب الانتساب إلى الجيش الجديد سيبقى مفتوحاً للعناصر السابقين في حال ثبوت عدم تورطهم بجرائم أو انتهاكات.
لكن، وحتى لحظة إعداد هذا التقرير، لم تصدر الإدارة الجديدة أي دعوات رسمية لعودة الضباط أو العناصر الذين خدموا في عهد نظام الأسد، إذ تشير المعطيات إلى أن وزارة الدفاع الجديدة منشغلة حالياً بإعادة هيكلة الجيش، وحلّ الفصائل ودمجها في تشكيل موحّد.
وفقاً لتقديراتٍ سابقة، كان الجيش السوري السابق يحتل المرتبة الستين عالمياً، ويضم نحو 170 ألف عسكري، فيما يبلغ إجمالي الطائرات الحربية 452 طائرة، بينها 271 في حالة جاهزية تشغيلية مباشرة.. بانتظار الاعلان عن تشكيل جيش سوري جديد.
وهكذا، تبقى بطاقة الهويةــ تلك الورقة الصغيرةــ رمزاً مكثّفاً لصراعٍ أكبر من مجرد وثيقة: صراع بين الدولة والأفراد، الذاكرة والنجاة، الاعتراف والمحو.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث