شرق الفرات.. الديموغرافيا تربك قسد وتفتح شهية التمثيل العربي

خاص - المدنالأحد 2025/10/26
GettyImages-1243010772.jpg
Getty
حجم الخط
مشاركة عبر

بعد سقوط نظام بشار الأسد ووصول الحكومة السورية الجديدة إلى السلطة، في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، دخلت مناطق شمال شرق سوريا مرحلة جديدة من التشكّل السياسي والإداري. فمع عودة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لتثبيت نفوذها تحت غطاء تفاهمات مع الحكومة الانتقالية، برزت مجدداً إشكالية التمثيل الديموغرافي في المنطقة، خصوصاً مع تصاعد الأصوات العربية المطالِبة بإعادة توزيع السلطة المحلية بما يعكس الوزن السكاني الحقيقي.

 

تركيبة تُعيد ترتيب موازين القوى

تشكل مناطق شرق الفرات نحو 41% من مساحة سوريا، لكنها لا تضم سوى 17% من سكانها. ورغم أن "قسد" حاولت لسنوات تكريس خطابٍ يقوم على أحقية المكوّن الكردي في قيادة المنطقة، إلا أن الأرقام تكشف واقعاً مغايراً، إذ يشكل العرب نحو 83% من السكان، مقابل 12% للأكراد، و5% لبقية المكونات (تركمان، سريان، آشوريون، أرمن، شيشان)، بحسب إحصاء أُجري قبل سقوط نظام الأسد، واطلعت عليه "المدن". 

محافظة الحسكة، التي تُعدّ القلب السياسي والإداري لشمال شرق سوريا، تضم أكثر من 1.8 مليون نسمة موزعين على 1717 قرية:

- العربية: 1161 قرية (67.6%)

- الكردية: 453 قرية (26.4%)

- السريانية/الآشورية: 50 قرية (2.9%)

- مختلطة: 53 قرية (3.1%)

 

أما التوزع الجغرافي فيُظهر خريطة متداخلة:

- المالكية (ديريك): 50% عربية، 39% كردية، 5% سريانية.

- القامشلي: 62% عربية، 33% كردية، مع حضور رمزي للسريان.

- رأس العين: 60% عربية، 34% كردية.

- الحسكة: 84% عربية، أقل من 10% كردية، مع 5% سريانية.

 

 

واقعٌ يضعف السردية الكردية

البيانات الميدانية تُضعف السردية التي تروّجها "قسد" منذ تأسيس "الإدارة الذاتية"، والتي حاولت تسويق المنطقة كحاضنة كردية خالصة. فالتداخل العربي–الكردي في الحسكة والرقة، وغياب الوجود الكردي عن دير الزور، يُظهر أن ثقل "قسد" السياسي لا يستند إلى غالبية سكانية بقدر ما يستند إلى تماسك تنظيمي وعسكري، وإلى غطاء دولي مؤقت فرضته معادلات ما قبل سقوط النظام.

ويقول الباحث في مركز "جسور للدراسات" وائل علوان، إن "استعادة الحكومة الجديدة لجزء من السلطة المركزية في شرق الفرات بعد 2024، وضعت قسد أمام اختبار شرعية، إذ لم يعد مقبولاً أن تبقى إدارة المنطقة خارج ميزان التمثيل الحقيقي". ويرى أن المرحلة المقبلة "ستشهد انتقالاً تدريجياً من سلطة أمر واقع إلى سلطة توافقية"، مشيراً إلى أن العرب في الحسكة والرقة، "لن يقبلوا بعد الآن أن يكونوا مجرد قاعدة بشرية بلا تمثيل سياسي موازٍ".

 

تعددية تُهدد الاستقرار وتُغري التدخل

وتُعدّ محافظة الحسكة من أكثر مناطق سوريا حساسية، إذ يجتمع فيها العرب والأكراد والسريان والآشوريون، في لوحة معقدة من الولاءات السياسية والدينية. هذا التنوع الذي كان يُفترض أن يكون مصدر توازن، تحوّل إلى ساحة تنازع بين مشاريع متضادة: مشروع لامركزي كردي مقابل تصوّر عربي للوحدة الوطنية.

ومع هذا الواقع، لم تعد الهيمنة الإدارية لـ"قسد" واقعية، خصوصاً بعد دخول الحكومة الانتقالية على خط إعادة الهيكلة، كما أن "إشراك العرب والسريان في القرار بات ضرورة سياسية، وليس خياراً أخلاقياً فحسب".

 

إعادة التموضع بعد الثورة

تواجه "قسد" اليوم معادلة معقدة: فهي من جهة تسعى للحفاظ على مكتسباتها الأمنية والإدارية، ومن جهة أخرى تجد نفسها مضطرة للتكيّف مع التحوّل الوطني العام بعد الثورة وانهيار النظام. فالتوازن السكاني الجديد، والمناخ السياسي الذي ولّدته الحكومة الانتقالية، يدفعان باتجاه صيغة لامركزية وطنية شاملة تتجاوز حدود "الإدارة الذاتية"، وتعيد دمج المنطقة ضمن الإطار الدستوري الجديد.

وفي ظل هذا المشهد، تبدو الحسكة نقطة اختبار أولى لمستقبل التعايش السوري، ومختبراً للعلاقة بين الدولة والمجتمع في مرحلة ما بعد الاستبداد. فالتنوّع الذي كان يُستغل كذريعة للانقسام، قد يتحوّل اليوم إلى رافعة سياسية لبناء توازن وطني جديد، شرط أن تُترجم الأرقام الديموغرافية إلى تمثيل فعلي في السلطة لا مجرد شعارات.

 

سيناريوهات ما بعد 2026

مع دخول شمال شرق سوريا مرحلة ما بعد سقوط النظام، يبرز أكثر من سيناريو متداخل لمستقبل الإدارة السياسية في شرق الفرات.

دمج "قسد" ضمن مؤسسات الدولة الجديدة وفق اتفاق دستوري شامل يضمن اللامركزية الإدارية الموسعة لا السياسية، أحد هذه السيناريوهات. وهو السيناريو الذي تدفع إليه الحكومة الانتقالية بدعم عربي ودولي، ويستند إلى مبدأ الشراكة بين المكونات دون احتكار. نجاح هذا المسار يعني نهاية مرحلة الإدارة الذاتية بشكلها الحزبي، وتحولها إلى نموذج محلي منضبط تحت سيادة دمشق الجديدة.

فيمت سيناريو الفدرلة المقنّعة، يرجّحه مراقبون في حال تعثّرت التسوية الدستورية، إذ قد تسعى "قسد" إلى تكريس واقع إداري خاص تحت مظلة الحكومة، مع احتفاظها بجهاز أمني واقتصادي مستقل بحكم الأمر الواقع. هذا السيناريو يُبقي المنطقة في حالة "تعايش إداري هش"، ويجعل الحسكة والرقة محور شدّ وجذب دائم بين المركز والإقليم.

وهناك السيناريو الأخطر سياسياً، سيناريو الانقسام الناعم. قد تلجأ قوى محلية إلى إعادة طرح فكرة "تحالف الأقليات" بدعم خارجي، مستفيدة من التباينات بين المكونات ومن غياب مشروع وطني موحد. هذا المسار يعيد إنتاج خطوط التماس القديمة، ويهدد بتفكك المشهد الأهلي في الجزيرة السورية، خصوصاً في حال غياب توازن عربي–كردي واضح في مؤسسات الحكم المحلي.

يبدو أن عام 2026 سيكون عاماً حاسماً في تحديد شكل السلطة في شرق الفرات. فإما تعايش وطني مستقر تُبنى عليه دولة تعددية جديدة، أو توازن قلق يُبقي المنطقة في دائرة النفوذ الرمادي بين المركز والأقليات.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث