التحالف في الصورة... والانقسام في العمق

شفيق طاهرالجمعة 2025/10/24
شي جينبينغ بوتين كيم
Getty
حجم الخط
مشاركة عبر

شهدت العاصمة الصينية بكين، في أيلول/سبتمبر الماضي، عرضاً عسكرياً ضخماً لإحياء الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية. وفي الصورة التي علقت في الأذهان، وقف الرئيس الصيني شي جينبينغ بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، يلوحون للجماهير بينما يستعرض الجيش الصيني أحدث منظوماته. بدا المشهد للكثيرين إعلاناً عن محور متماسك في مواجهة الغرب، غير أن التاريخ يذكرنا بأن مظاهر التلاحم غالباً ما تُخفي تحتها تصدعات عميقة.

فالقادة الثلاثة ظهروا معاً أكثر من مرة هذا العام، بين عرض بكين واحتفالات بيونغ يانغ بذكرى تأسيس حزب العمال الكوري، في ما يشير إلى توثيق العلاقات الثلاثية. لكن قراءة متأنية في تجارب الخمسينيات، تكشف أن المشاهد المهيبة لم تكن يوماً دليلاً كافياً على صلابة التحالفات.

 

بريق المنصّة وقلق الكواليس

في تشرين الثاني/نوفمبر 1957، وقف الزعيم الصيني ماو تسي تونغ إلى جانب الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، في عرض موسكو بمناسبة الذكرى الأربعين لثورة أكتوبر، بينما كان الرئيس الكوري الشمالي كيم إيل سونغ، حاضراً في الصف الأمامي، على بعد خطوة من مركز الصورة. كانت المناسبة ذروة دبلوماسية اشتراكية جمعت قادة العالم الشيوعي، لكنها جرت وسط انقسامات داخلية متصاعدة.

قبل عام فقط، أطلق خروتشوف خطابه الشهير ضد الستالينية، ما أدى إلى اضطرابات في بولندا وانتفاضة دموية في المجر. بدا المشهد موحداً على المنصة، لكن الكتلة الاشتراكية كانت تهتز من الداخل.

 

من "مئة زهرة" إلى الاجتثاث

في الصين، فتح ماو الباب أمام المثقفين الصينين لانتقاد السياسات الرسمية تحت شعار "دع مئة زهرة تتفتح"، غير أن سيل الانتقادات فاق توقعات القيادة. سرعان ما انقلب الانفتاح إلى حملة قمع واسعة سميت "مكافحة اليمينيين"، طاولت مئات الآلاف من المفكرين والمسؤولين الصينين. كانت الرسالة واضحة، الإصلاح ممكن في الخطاب، لكن قبضة السلطة لا تتراخى في الممارسة.

 

تمرد في بيونغ يانغ

في كوريا الشمالية، اندلعت الخلافات الحزبية أثناء جولة كيم إيل سونغ، في دول المعسكر الاشتراكي صيف 1956. حاولت مجموعة داخل الحزب استغلال موجة "نزع الستالينية" القائمة في موسكو لإطاحته، لكنها فشلت سريعاً. أرسلت موسكو وبكين وفداً مشتركاً يطالب كيم بوقف حملات التطهير، غير أنه اكتفى بالمناورة الشكلية، ثم استأنف الإقصاء تدريجياً حتى ثبّت سلطته الكاملة.

وفي 1961، رفض الزعيم الكوري الشمالي كيم إيل سونغ الانحياز الكامل لأي من الصين وروسيا. وقعت بيونغ يانغ معاهدتي دفاع منفصلتين مع موسكو وبكين، لتبقي على توازن دقيق بين القوتين. هذه الاستراتيجية منحت كوريا الشمالية مساحة مناورة نادرة، جعلتها تستفيد من تنافس الحليفين بدل أن تكون رهينة لأحدهما.

 

انسحاب المتطوعين الصينيين

منذ انتهاء الحرب الكورية، بقيت القوات الصينية في الشمال عامل ردع في وجه الجنوب وواشنطن، وأداة نفوذ لبكين في الوقت نفسه. لكن مع حلول عام 1958، تم الاتفاق على سحب هذه القوات بالكامل، في خطوة أنهت الوجود العسكري الصيني المباشر وأعادت لبيونغ يانغ استقلالها النسبي.

في المقابل، أبقت الولايات المتحدة على وجود عسكري مستمر في الجنوب، بلغ اليوم نحو 28 ألف جندي، لتظل شبه الجزيرة مقسمة بين نفوذين لا يتقاربان إلا في حسابات الضرورة.

 

الخصومة خلف الأبواب

في عام 1959، تكرر المشهد في بكين في احتفالات الذكرى العاشرة لتأسيس الجمهورية الصينية. وقف ماو إلى جانب خروتشوف وهو شي منه، في صورة بدت عنواناً للوحدة. لكن اللقاءات المغلقة بين الزعيمين الصيني والسوفياتي كانت متوترة إلى حد أن بعض المؤرخين وصفها بأنها كادت تنتهي بعراك لفظي، بل وحتى بإهانات متبادلة.

تلك الخلافات لم تكن تفصيلاً بروتوكولياً، بل عكست تنافساً متصاعداً على زعامة العالم الاشتراكي، حيث أراد كل طرف أن يكون قائد الأوركسترا الثورية.

وخلال زيارته للولايات المتحدة في 1959، تباهى خروتشوف بقوله إن الاتحاد السوفيتي "يصنع الصواريخ كالنقانق"، في ذروة سباق الفضاء. لكن وراء الخطاب الاستعراضي، كانت العلاقات مع الصين تتصدع. الخلافات حول الردع النووي، والسياسة تجاه الغرب، وتقاسم النفوذ في آسيا، جعلت موسكو تسحب خبراءها من الصين عام 1960، وتوقف التعاون النووي، فاتحة باب الانقسام الصيني-السوفيتي الذي سيستمر لعقود.

 

صور تخفي ما وراءها

بعد ثلاثة عقود من القطيعة، زار الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بكين، عام 1989، معلناً تطبيع العلاقات بين البلدين. لكن الحدث الذي كان يفترض أن يرمز إلى نهاية الانقسام الشيوعي، تزامن مع احتجاجات ميدان تيانانمن في الصين، التي حجبت رمزية المصالحة وفتحت فصلاً جديداً من التحديات الداخلية. بعد عامين فقط انهار الاتحاد السوفيتي، وتحولت موازين القوى في العالم جذرياً.

 

تشابه اللحظة

كما في خمسينيات القرن الماضي، تنتج اليوم صور الزعماء الثلاثة في بكين وبيونغ يانغ إيحاء بوجود محور صلب. لكن التاريخ يحذر، التماسك الظاهري لا يعني انسجاماً فعلياً.

تتشابك المصالح داخل مثلث "بكين موسكو بيونغ يانغ"، عبر السلاح والتكنولوجيا والغطاء الدبلوماسي، لكن هذه القنوات نفسها قابلة لإعادة التفاوض في أي لحظة. فاختلاف الأولويات، أو تصاعد طموحات القيادة، قد يبدد مشهد الوحدة كما حدث في الستينيات.

التحالفات التي تدار بمنطق من يُعقد له لواء الزعامة، تظل مهددة بالتصدع مهما بدت متماسكة. هذا ما كشفه التاريخ حين تحول الخلاف الصيني-السوفيتي من نقاش أيديولوجي إلى صراع على القيادة. واليوم، يعود السؤال ذاته، ما موقع كل من الرئيس شي، والرئيس بوتين، والرئيس كيم، في هذا المثلث؟ ومن الذي يملك حق قول الكلمة الرئيسية؟

 

لماذا لا تكفي الصور؟

العروض العسكرية تخاطب الجماهير في الداخل كما الخصوم في الخارج. لكنها لا تعبر عن توازنات القرار الحقيقية، التي تصاغ في الغرف المغلقة حول التكنولوجيا، والاقتصاد، والطاقة، والردع النووي.

في الماضي، انتهت مرحلة شهر العسل السوفياتي-الصيني، عندما انسحب الخبراء الروس وأُغلقت المشاريع المشتركة. واليوم، قد تتكرر التجربة بأدوات مختلفة، عبر قيود على تبادل التقنيات، أو تسعير انتقائي للطاقة، أو تنافس على عقود التسلح.

التاريخ لا يكرر نفسه حرفياً. فروسيا الغارقة في حرب أوكرانيا تبحث عن منافذ تسليح وموردين بدلاء، فيما تخوض الصين منافسة استراتيجية طويلة مع الولايات المتحدة، وتستغل كوريا الشمالية هامش الفرصة لتعزيز نفوذها عبر التجارب الصاروخية والتبادلات العسكرية.

تمنح هذه التقاطعات السياسية مشاهد الاستعراض وزناً رمزياً كبيراً، لكنها في الوقت نفسه تجعل التحالفات أكثر هشاشة أمام الخلافات التقنية أو البروتوكولية، من ترتيبات الجلوس إلى أولوية التغطية الإعلامية.

العِبرة الأوضح من التاريخ، أن العروض العسكرية لا تصنع التحالفات بقدر ما تعبر عن لحظة تفاوضٍ في ميزان النفوذ. في الخمسينيات، انتهت وحدة الصورة بانقسام رسمي بين موسكو وبكين عام 1960، فيما احتفظت بيونغ يانغ بقدرتها على المناورة عبر معاهدات متوازية عام 1961. وفي 1989، بدا المشهد وكأنه طي للصفحة، لكنه كان في الواقع مقدّمة لانهيار الإمبراطورية السوفيتية.

أما اليوم، فصور بكين وبيونغ يانغ عام 2025، قد تعبر عن تقاطع مصالح مرحلي، لا عن تحالف دائم. فالقانون الأبدي في السياسة، يقول إن الشعارات تتعايش مع المصالح، لكن المصالح هي التي تنتصر عند الاختبار. لذلك، يجب قراءة الاستعراضات لا بوصفها دليلا على وحدة صلبة، بل كرسائل ضمن لعبة توازنات أوسع لا تزال تكتب فصولها.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث