للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، تجد أوروبا نفسها بلا مظلة أميركية موثوقة. وفي ظل حاجتها لوسيط، لم تتجه أوروبا نحو حلفائها التقليديين، بل نحو الرجل الذي شيطنته لسنوات ووصمته بالسلطوية: رجب طيب أردوغان. اليوم، لم تعد أوروبا تسأل: هل نثق به؟ بل: هل نملك بديلاً عنه؟
أوروبا والبحث عن بدائل
لم تعد أوروبا تمتلك قناة واحدة فعّالة للتأثير على فلاديمير بوتين. أما الولايات المتحدة، فمشغولة بملفات أكثر سخونة في الشرق الأوسط وآسيا، ولم تعد ترى القارة العجوز أولوية استراتيجية. ومع عودة دونالد ترامب إلى المشهد السياسي الأميركي، تزداد المخاوف الأوروبية من أن يتحول الملف الأوكراني إلى ورقة مقايضة بينه وبين بوتين، لا إلى معركة دفاع عن "قيم الغرب"، بحسب منظورها.
وفي عالم منقسم بوضوح بين معسكرين متقابلين بشكل مباشر، الغرب بقيادة واشنطن وأوروبا، والشرق بقيادة موسكو وبكين، نجحت تركيا في بناء موقع وسطي فريد. ليست تابعة للغرب، ولا أسيرة للمحور الشرقي، بل اختارت أن تكون "قوة مركزية" تتواصل مع الطرفين وتؤثر في مسار الصراع، بدلاً من أن تكون مجرد تابع في جبهة أحدهما.
تركيا اليوم هي الدولة الوحيدة في "الناتو" التي تزوّد أوكرانيا بالمسيّرات القتالية، وفي الوقت نفسه تسمح لروسيا بالالتفاف على بعض العقوبات الغربية. تقارير أوروبية، مثل تقرير الإذاعة الفنلندية "إيليا"، كشفت العام الماضي عن توريد قطع غيار طائرات إلى روسيا عبر شركات تركية، من دون أن يؤثر ذلك على العلاقة الاستراتيجية بين أردوغان والغرب.
حتى بعد خفض واردات الغاز الروسي تحت الضغط الأميركي، لم تُقفل أنقرة أبوابها في وجه موسكو، بل تحولت إلى شريان اقتصادي لها خلال عزلتها الدولية.
براغماتية تركية لا تعرف الحرج
قد تبدو هذه الازدواجية لغزاً، لكنها في الحقيقة لبّ العقيدة السياسية التركية. ففي الشرق الأوسط، تدعم أنقرة السلطة السورية الجديدة التي تنفتح على التطبيع مع إسرائيل، وفي الوقت ذاته تُعدّ من أبرز الداعمين السياسيين لحركة "حماس" التي تواجه إسرائيل عسكرياً. هذا التناقض الظاهري هو في الواقع أعلى درجات البراغماتية: تركيا تدرك كيف تعمل مع الأضداد.
على المستوى العسكري تتقدم تركيا وحدها أيضاً، وهي سبق أن حرمت واشنطن من الاستمرار في برنامج المقاتلة المتطورة "F-35". قبل فترة، دشّنت تركيا أول حاملة طائرات مُسيّرات في العالم، "TCG أناضولو"، أكبر سفينة حربية في تاريخ أسطولها البحري. لم تكن خطوة تقنية فحسب، بل إعلان فصل جديد في الاستقلال الجيوسياسي التركي.
أوروبا التي ذهبت حتى النهاية في دعم أوكرانيا، ترى في أردوغان اليوم، الحاكم الوحيد القادر على جمع المتناقضين على طاولة واحدة والمساعدة في إخراجها من مأزق الحرب الطويلة في أوكرانيا. وذلك كما فعل حين نجح في تمرير اتفاق الحبوب بين روسيا وأوكرانيا، ثم عندما تمكن مع قطر ومصر، من دفع "حماس" وإسرائيل إلى توقيع تفاهمات ميدانية مؤقتة رغم تصاعد الحرب بينهما.
وبالفعل، في 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، زار وزير الخارجية الألمانية يوهان واديفول أنقرة. الرسالة لم تكن خافية: أوروبا تريد من أردوغان أن يتولى مجدداً دور "رجل المهمات الصعبة"، هذه المرة لإدارة المفاوضات في محاولة لوقف الحرب الروسية-الأوكرانية.
وخلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره التركي هاكان فيدان، ركّز واديفول على "التقارب الأوروبي-التركي" و"التعاون داخل الناتو" و"الوضع في غزة وأوكرانيا". لكن خلف الكلمات الدبلوماسية، كان هناك توجه واضح: أوروبا تطلب وساطة أردوغان.
المضائق… الورقة التي تغيّر اللعبة
إشارة أنقرة الإيجابية لم تتأخر. سمحت تركيا لسفينة أوكرانية بالإبحار عبر البحر الأسود، في خرقٍ ناعم للجمود العسكري الذي فرضته الحرب. هذه الخطوة لم تكن تقنية بل سياسية بامتياز. إذ بموجب اتفاقية مونترو لعام 1936، تركيا هي الجهة الوحيدة المصرح لها قانونياً بالتحكم بمرور السفن الحربية نحو البحر الأسود. واليوم، حين توافق على السماح لأوكرانيا بإرسال الفرقاطة "إيفان مازيبا" مع طاقم يضم 106 جنود، فهي عملياً تفتح الباب أمام "عسكرة البحر الأسود" من قبل "الناتو"، لكن بشروطها الخاصة.
لماذا تفعل ذلك؟ الجواب مزدوج: أولاً، لأن أنقرة تريد تعزيز موقعها التفاوضي مع أوروبا في ملفات قبرص واليونان، حيث تسعى إلى فرض مقاربة "حل الدولتين" والاعتراف بالجمهورية التركية في شمال قبرص. وثانياً، لأن روسيا تجاهلت الطلب السوري، وبالتالي التركي، بنشر قواتها في الجنوب السوري لاحتواء التوسع الإسرائيلي، فجاء الرد من البحر الأسود: إذا لم تحمِ روسيا نفوذ تركيا في سوريا، فتركيا قادرة على تمرير رسائل انزعاجها في البحر الأسود.
الخلاصة: أوروبا على باب أنقرة
في لحظة تبدو أوروبا يائسة من انتصار أوكرانيا فيما تنتهك طائرات الدب الروسي أراضيها وأراضي "الناتو" معها، تبدو أنقرة وكأنها العاصمة الوحيدة التي تمتلك مفاتيح الأبواب المغلقة. هي تتحدث مع موسكو من دون عداء، وتفاوض تل أبيب من دون خصومة، وتدرب الأوكرانيين بينما تشتري القمح الروسي. إنها النسخة الحديثة من "الدبلوماسية العثمانية": لا انحياز مطلق، بل توازن بين المصالح والممرات.
أردوغان، الذي لطالما وصفوه بـ"السلطان المتعجرف"، عاد ليكون رجل المهمات الصعبة لكن هذه المرة، ليس لإنقاذ تركيا، بل لإنقاذ التوازنات التي تسعى أوروبا نفسها لتثبيتها.
