على الرغم من التصريحات المتكرّرة الصادرة عن واشنطن بشأن تقليص وجودها العسكري أو سحب قواتها من سوريا، فإن نمط السلوك العسكري الأميركي منذ عام 2014 وصولاً إلى 2025، يكشف مساراً من التحول الاستراتيجي لا الانسحاب المجرد؛ إذ أن كل إدارة أميركية أعادت صياغة مفهوم الوجود التوسّعي وفق حساباتها الخاصة، بدءاً من إدارة أوباما التي تبنّت سياسة الاحتواء الحذر، وصولاً إلى إدارة ترامب التي اتجهت إلى إعادة المعايرة البراغماتية القائمة على مبدأ "أميركا أولاً"، في حين واصلت إدارة بايدن سياسة الترسّخ الاستراتيجي، مركّزة على تحقيق توازن بين تقليص الكلفة العسكرية والحفاظ على النفوذ الميداني والسياسي في آنٍ واحد.
وفي عام 2025، ومع التحولات الكبرى التي شهدتها الساحة السورية بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 وصعود حكومة انتقالية جديدة بقيادة أحمد الشرع، أعادت الولايات المتحدة تشكيل وجودها الميداني في البلاد من خلال إعادة انتشار مدروسة؛ فالتعزيزات العسكرية الجديدة التي وصلت إلى الحسكة مؤخراً، والتحركات اللوجستية المتزايدة عبر الحدود العراقية و عمليات الإنزال البرية التي تطاول العديد من قادة التنظيمات المتشددة، وترسيخ قاعدة التنف كمركز متقدم للعمليات الاستخباراتية والمراقبة الجوية، جميعها تعكس انتقال واشنطن من مهمة مكافحة تنظيم "داعش" إلى مشروع هندسة جيوسياسية متكاملة. على الأرض، يسعى هذا المشروع إلى تأمين خطوط الطاقة في الشرق السوري، واحتواء التمدد الإيراني نحو الجنوب والغرب، ودعم استقرار الحكومة الجديدة، إلى جانب حماية مصالح الحلفاء الإقليميين كالأردن وإسرائيل وتجنيبهم خطر جماعات متطرفة وخطر تجار المخدرات وخطر السلاح المنفلت على الحدود.
لم يعد الوجود الأميركي في سوريا يُقاس بعدد الجنود المنتشرين، بل بطبيعة الأدوار التي يؤديها هذا الوجود المتمثل بالسيطرة على مفاصل الميدان الحيوية، وإعادة رسم خرائط النفوذ التقليدي لواشنطن في مرحلة ما بعد الحرب، وتثبيت معادلة ردع تمنع خصومها من استعادة المبادرة. وهكذا، أصبحت قاعدة التنف منذ عام 2025 رمزاً لهندسة النفوذ الأميركي الجديد في المشرق، ومركزاً محورياً في مشروع يهدف إلى إعادة بناء ميزان القوى الإقليمي تحت المظلة الأميركية، لا عبر الاحتلال المباشر بل من خلال حضور ذكي، متكيّف، وشبكي الطابع.
منطق الوجود الأميركي
تجاوز منطق الوجود الأميركي في سوريا مبرّره الأصلي المتمثل في هزيمة تنظيم "داعش"، والإنزالات الجوية لضرب قيادات في التنظيم ليتحوّل إلى منصّة استراتيجية متعددة الأبعاد تخدم أهدافاً عسكرية وسياسية وجيوسياسية متداخلة. فبينما ما تزال مكافحة الإرهاب تشكّل الركيزة المركزية للوجود الأميركي بالتنسيق مع الإدارة السورية الجديدة من خلال منع عودة تنظيم داعش، وتنظيم القاعدة، وفروعهما توسّعت المهمة الأميركية لتشمل احتواء الخصوم الإقليميين، وعلى رأسهم إيران وحزب الله، اللذين يعتمدان شبكتهما العابرة للحدود على الأراضي السورية كجسر يربط بين طهران وبيروت. في الوقت نفسه، استغلت واشنطن سيطرتها على المناطق الغنية بالموارد في شمال شرق سوريا، ولا سيما حقول النفط والمياه، كوسيلة للضغط السياسي والتأثير في مسار المرحلة الانتقالية بعد سقوط نظام الأسد، وإعادة تشكيل ميزان القوى بين الفاعلين المحليين والإقليميين (الأكراد والأتراك مثلاً). كما بات الوجود الأميركي أداة دقيقة لإدارة التحالفات، إذ يسمح لواشنطن بموازنة علاقاتها الحساسة مع تركيا وإسرائيل والقوات الكردية بقيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مع الحد من احتمالات التصادم بينها.
وعلى الرغم من الخطاب السياسي المتكرر حول الانسحاب، خصوصاً خلال ولايتي دونالد ترامب الأولى والثانية، فإن الواقع أثبت أن واشنطن لم تنسحب بقدر ما أعادت معايرة وجودها؛ إذ خفضت عدد الجنود من نحو 2000 إلى 900 فقط، لكن في المقابل جرى تعزيز القدرات اللوجستية والاستخباراتية والجوية بما يضمن استمرار التفوق العملياتي. مع وصول الرئيس جو بايدن إلى السلطة، عادت السياسة الأميركية إلى اتجاه مغاير، حيث ارتفع عدد القوات مجدداً إلى نحو 2000 جندي بحلول منتصف عام 2025 استجابةً لحالة عدم الاستقرار التي أعقبت انهيار نظام الاسد . وبذلك، لم يعد الوجود الأميركي في سوريا مجرد وجود عسكري طارئ، بل أصبح عنصراً بنيوياً في إعادة هندسة الأمن الإقليمي وضمان استمرار النفوذ الأميركي في قلب المشرق العربي في مواجهة معسكر الروس الذي استحوذ على مناطق حيوية سواء في الساحل او في البادية.
ركيزة الاستراتيجية الأميركية
تقع قاعدة التنف في موقع جغرافي فريد عند المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، ما يجعلها إحدى الركائز الأساسية في الاستراتيجية العسكرية والجيوسياسية الأميركية في الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً؛ إذ تتمركز القاعدة على الطريق السريع M2، وهو أقصر الممرات البرية التي تربط طهران بالبحر المتوسط عبر العراق وسوريا، ما يمنح واشنطن قدرة مباشرة على قطع شريان الإمداد الحيوي الذي يغذي الشبكات اللوجستية الإيرانية المتجهة إلى حزب الله والميليشيات الموالية لطهران في سوريا ولبنان. من خلال تمركز نحو 200 جندي أميركي من قوات النخبة مجهزين بأحدث أنظمة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (Intelligence, Surveillance, and Reconnaissance) ومدعومين بوحدات العمليات الخاصة، تنجح الولايات المتحدة في تفكيك محور إيران وضرب فكرة الهلال الشيعي، معطّلةً طرق الإمداد الإيرانية نحو الجنوب السوري واللبناني، وفي الوقت نفسه محافظةً على نقطة مراقبة متقدمة في مواجهة كل من التمدد الإيراني وإعادة نشاط تنظيم داعش.
وبرغم صِغر حجمها وعدد جنودها المحدود، فإن تأثير قاعدة التنف يتجاوز وزنها العسكري، إذ تشكّل حجر الزاوية في منظومة الردع الأميركية والإسرائيلية في المشرق، وركيزة محورية في بنية الأمن الإقليمي لما بعد الحرب في سوريا. في الأيام الأخيرة، وبعد ضمان خبو نجم المحور الإيراني، لا سيما بعد توجيه عدة ضربات لطهران، بات دور القاعدة يتجاوز البعد الإيراني، إذ أصبحت منطلقاً رئيسياً لعمليات مكافحة الإرهاب في البادية السورية؛ وتوفر منصة للتدخل السريع وتبادل المعلومات الاستخباراتية ضمن إطار التحالف الدولي الأوسع، وأصبحت مركزاً لجمع البيانات حول شخصيات إرهابية، ومركز اعتقال وتحقيق. كما أن قربها من الحدود الأردنية يمنحها وظيفة ردعية داعمة لأمن الأردن، من خلال المساعدة في التصدي لعمليات تهريب المخدرات وتسلل الميليشيات القادمة من الشمال. وتعمل القاعدة أيضاً كمركز استخباراتي متكامل ينسّق بين الجهود الأميركية وحلفائها، ولا سيما المملكة المتحدة وفرنسا والأردن، لتوفير رؤية ميدانية فورية تدعم حملات المراقبة الجوية والضربات الدقيقة بالطائرات المسيّرة.
ديناميات التحالف والتطوير
تطوّر التحالف الدولي لهزيمة تنظيم داعش تدريجياً ليصبح منظومة أمنية أوسع تتعامل مع مجموعة متشابكة من التحديات الإقليمية؛ إذ أعادت الولايات المتحدة إعادة هيكلة شراكاتها الإقليمية لتربط بين أولويات مكافحة الإرهاب ومتطلبات الاستقرار السياسي في مرحلة ما بعد الأسد؛ وقد برزت الأردن كشريك محوري في هذه المعادلة، حيث عمّقت تنسيقها مع واشنطن والحكومة السورية الانتقالية عبر لجنة مشتركة لأمن الحدود وعمليات متزايدة لمكافحة شبكات تهريب الكبتاغون. وفي المقابل، تواصل تركيا التأرجح بين التعاون والمواجهة؛ فعملياتها العسكرية ضد قسد تضعف أحياناً الإستراتيجية الأميركية، إلا أن الدبلوماسية المتجددة في الولاية الثانية للرئيس ترامب عام 2025 فتحت قناة براغماتية أعادت ضبط العلاقة بين أنقرة وواشنطن عبر تنسيق مشترك يربط أمن الحدود التركية بأولويات مكافحة الإرهاب الأميركية. أما إسرائيل، فتنظر إلى قاعدة التنف كجزء أساسي من منظومتها متعددة الطبقات للردع، إذ تمثل خط دفاع متقدماً في مواجهة نشر الصواريخ الإيرانية، وتتكامل مع العمليات الجوية الإسرائيلية فوق تدمر وقاعدة T4 وأطراف دمشق الجنوبية الغربية؛ و تؤمن لها مكان إمداد في العمق و تكون ظهيراً لها في تمددها في الجنوب السوري.
مثّل اتفاق دونالد ترامب مع أحمد الشرع في سبتمبر 2025 نقطة تحوّل بنيوية في مقاربة واشنطن تجاه سوريا والمنطقة، إذ عبّر عن نية الإدارة الأميركية تحويل وجودها العسكري الدائم إلى رصيد سياسي من خلال إدماج الإدارة السورية الجديدة ضمن إطار تحالف موجّه نحو اتفاقيات تفاهم إقليمية وإعادة هيكلة الأمن في الشرق الأوسط. واستناداً إلى هذه الرؤية أعادت واشنطن هندسة الجغرافيا السورية لتقسيمها إلى ثلاثة ممرات مترابطة للاستقرار والأمن الإقليمي. الأول هو القطاع الجنوبي الممتد من السويداء إلى الجولان ولبنان، والذي يُدار عبر تنسيق سوري-إسرائيلي برعاية أميركية وأردنية لضمان أمن الحدود ومنع عودة الميليشيات الموالية لإيران؛ والقطاع الشرقي الممتد من دير الزور إلى الرقة، حيث تؤمنه القوات السورية والأردنية بدعم أميركي للحد من عودة تنظيم داعش وكبح تجارة الكبتاغون العابرة للحدود؛ أما القطاع الشمالي فيُشكّل منطقة تفاوض مع تركيا تهدف إلى ضبط تحركات قسد وقوات حزب العمال الكردستاني (PKK) والجماعات الجهادية المتبقية ضمن آلية أمنية مشتركة. وهنا تبرز قاعدة التنف بوصفها أكثر من مجرد منشأة عسكرية تكتيكية، إذ تمثل مفصلاً جيوسياسياً محورياً يربط بين هذه الممرات الثلاثة، ونقطة ارتكاز حيوية تسعى من خلالها الولايات المتحدة إلى ترسيخ توازن قوى مستدام في سوريا ما بعد الحرب، وإعادة صياغة منظومة الأمن الإقليمي في المشرق العربي بما يضمن استمرار نفوذها وهيمنتها الإستراتيجية ويحافظ على تحالفاتها مع شركائها الإقليميين.
مفارقة الانسحاب والتوسع
تكشف المفارقة بين إعلان واشنطن نيتها خفض أعداد القوات في سوريا وبين قيامها في الوقت نفسه بتعزيز وجودها العسكري في الحسكة وقُسرك والتنف عن منطق استراتيجي أعمق يوجّه السياسة الأميركية في المنطقة؛ فبعيداً عن فكرة الانسحاب، يعكس النهج الأميركي تحوّلاً من نموذج الاحتلال التقليدي إلى نموذج الانتشار الشبكي الذي يتميّز بخفة الحركة، والمرونة الهيكلية، والتكامل الأوسع مع الشركاء الإقليميين. ويؤكد التدفق المستمر لطائرات الشحن إلى قاعدة خراب الجير، والقوافل القادمة من إقليم كردستان العراق، أن واشنطن تمارس توسعاً لوجستياً فعلياً خلف خطاب الترشيد مع الكفاءة؛ إذ أن الحديث عن تقليص القوات ليس سوى إعادة هندسة للوجود العسكري تهدف إلى تقليل الظهور الميداني والكلفة المالية، مع الحفاظ على التفوّق الاستخباراتي والقدرة الجوية ومدى الردع الاستراتيجي. رأينا هذا النهج عملياً في التجربة الأميركية في أفغانستان، إذ يجسّد تفضيل واشنطن للانخراط المشروط بدل الانسحاب الكامل، بما يضمن استمرار السيطرة على ممرات الطاقة الحيوية، والحفاظ على الضغط المستمر على التنظيمات الإرهابية، وترسيخ النفوذ الدبلوماسي في آن واحد.
أما الأهمية الاستراتيجية لقاعدة التنف، فهي تتجاوز بعدها العسكري لتطال موازين الأمن والقوة في المشرق العربي ما بعد الأسد. فبالنسبة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، تمثّل القاعدة درعاً دفاعياً ونقطة استخبارات متقدمة، تواصل من خلالها قطع الجسر البري الإيراني بين طهران وبيروت، وتؤمّن إنذاراً مبكراً لأي نشاط صاروخي أو تحركات ميليشياوية في الجنوب السوري. وبالنسبة إلى الحكومة السورية الانتقالية، تشكّل القاعدة ضمانة أمنية خارجية تكبح احتمالات احتكار السلطة داخلياً، وتجبر إدارة الرئيس أحمد الشرع على الموازنة بين الاستقلال الوطني والاحتماء الأميركي. أما بالنسبة إلى إيران وحزب الله، فتبقى التنف عقبة دائمة أمام استعادة خطوطهم اللوجستية، إذ تضطر شبكاتهم إلى استخدام مسارات أطول وأكثر خطورة عبر شمال العراق ودير الزور، ما يقلل من كفاءتها العملياتية ويضعف حضورها الميداني. ومن جهة أخرى، ومع تأخر عودة النفوذ الروسي عقب سقوط النظام السابق، باتت قاعدة التنف رمزاً لاستمرار القدرة الأميركية على فرض القوة غرب الفرات وإعادة تشكيل المشهد الأمني بعيداً عن الهيمنة الروسية لخلق توازن معها. أما بالنسبة إلى الأردن ودول الخليج، فتُمثّل القاعدة ومعها الشبكة العسكرية الأميركية الأوسع ركيزة أساسية للاستقرار الإقليمي، إذ تعزز عمليات مكافحة تهريب المخدرات وتدعم منظومات أمن الحدود التي تُعد ضرورية لحماية الأمن الداخلي واحتواء التهديدات العابرة للحدود.
إلى جانب قاعدة التنف، تمتلك الولايات المتحدة عدة مواقع عسكرية أخرى في سوريا الآن على نطاق أوسع و يجري تطويرها، أبرزها قاعدة خراب الجير في محافظة الحسكة شمال شرق البلاد، والتي تُعد مركزاً لوجستياً ومهبطاً لطائرات الشحن يجري تعزيز قدراته بشكل متواصل، ومطار أبو حجر قرب رميلان الذي كان في الأصل مهبطاً زراعياً قبل أن تقوم القوات الأميركية بتحديثه ليصبح منشأة لوجستية وربما جوية مستقبلاً. كما تبرز منشأة الدعم الميداني كونوكو ، وهي منشاة نفطية في الأساس، في محافظة دير الزور، المرتبطة بحماية وإدارة حقول النفط في الشرق السوري، وقاعدة القرية الخضراء في المنطقة ذاتها والتي تُعد من أقدم نقاط التمركز الأميركية هناك. ومع ذلك، فإن معظم هذه المواقع ليست قواعد ضخمة بالمعنى التقليدي، بل هي مواقع متقدمة صغيرة أو ممرات جوية ومراكز دعم لوجستي، ما يجعل التوسع فيها غالباً يعني تعزيز البنية التحتية والقدرات الاستخباراتية فقط وليس زيادة أعداد الجنود بشكل واسع. الآن تعيد واشنطن هيكلة وجودها عبر تقليص عدد القواعد ودمجها في مواقع محدودة أكثر فعالية بدلاً من الانتشار الأفقي الواسع و المكلف، على أن تركز أي عمليات توسع مستقبلية على تحديث القواعد الموجودة في الحسكة ودير الزور و البادية السورية، وضمان السيطرة على ممرات الطاقة والموارد المائية، وتعزيز التنسيق مع الشركاء الإقليميين، ضمن إطار يرسّخ شبكة النفوذ الأميركية في شمال وشرق سوريا دون الحاجة إلى قواعد ضخمة تقليدية؛ على الرغم من أن قاعدة التنف هي الأساس كمحور عمليات أميركية في المنطقة.
