اللامركزية كأمر واقع في سوريا بعد سقوط الأسد

مها غزالالأربعاء 2025/10/22
المزة دمشق سوريا (غيتي)
دولة المدن والبلدات: حين صنع السوريون نموذجهم الخاص للحكم (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

منذ سقوط نظام الأسد، وجدت سوريا نفسها أمام واقع جديد غيّر شكل الدولة ووظائفها. فالمركزية الصارمة التي حكمت البلاد لعقود، تفككت مع انهيار مؤسسات النظام وتراجع موارد الدولة، لتحلّ محلها أشكال متباينة من اللامركزية الإدارية والأمنية والاقتصادية. وبينما يُظهر هذا الواقع قدرة المجتمع السوري على التكيّف، فإنه يطرح في الوقت نفسه أسئلة كبرى عن مستقبل الدولة: هل تتحول هذه التجارب إلى نموذج منظم تُؤطّره قواعد دستورية واضحة؟ أم تبقى عنواناً لمرحلة انتقالية مضطربة تكرّس الانقسام؟

 

إرث الدولة المركزية

ارتبطت سوريا، منذ سبعينيات القرن الماضي، بمفهوم الدولة المركزية المفرطة، حيث احتكر حزب البعث السلطة عبر شبكة من المؤسسات الأمنية والإدارية. هذا النمط أنتج بيروقراطية ضخمة متخمة بالفساد والمحسوبيات، ومع سقوط النظام ظهرت الحاجة الملحّة إلى إعادة صياغة الإدارة المحلية، وتغيير كوادرها التي وُصفت بأنها أدوات طيّعة للنظام، وأحياناً شركاء مباشرون في الانتهاكات التي لحقت بالسوريين.

 

بدايات اللامركزية

ليست تجربة السوريين مع الإدارة الذاتية وليدة اللحظة. فمنذ عام 2012، حين بدأت المدن بالتحرر من سلطة النظام، نشأت أولى محاولات الإدارة المدنية المحلية، حينها تولت المجالس الثورية إدارة الخدمات، وأشرف الجيش الحر على الأمن، قبل أن تتشظى التجربة مع ظهور الفصائل المسلحة المختلفة. وبين عامي 2012 و2017، تعايشت مناطق واسعة مع هذا النمط، رغم هشاشته، وهو ما هيّأ لاحقاً لتقبل السوريين لفكرة إدارة شؤونهم بعيداً عن المركز.

 

إعادة صياغة الإدارة المحلية

التحول في سوريا بدأ من إعادة صياغة الإدارة المحلية، إذ وجد أبناء المدن والقرى ضرورة ملحة لاستبدال كوادر الإدارات السابقة التي ارتبطت بالفساد والمحسوبيات، أو لعبت أدواراً مباشرة في خدمة النظام وأجهزته الأمنية، وتسببت بأذى مباشر للسكان. فالغالبية العظمى من تلك الكوادر كانت مرتبطة بحزب البعث المنحل، الذي هيمن على المجالس المحلية طيلة عقود، وحوّلها إلى أدوات للسيطرة وضبط المجتمع بدلاً من أن تكون مؤسسات خدمية في جوهرها.

وبغياب إمكانية تنظيم انتخابات حرة في بيئة مستقرة، لجأت المجتمعات المحلية إلى آليات اجتماعية وثورية بديلة لاختيار ممثليها. واعتمدت هذه الآليات على الوجاهات الاجتماعية، إضافة إلى رموز ثورية وشخصيات اكتسبت ثقة المجتمع خلال سنوات الصراع. ورغم أن هذه الاختيارات لم تمر عبر صناديق الاقتراع الرسمية، فإنها عكست بدرجة عالية إرادة السكان وخياراتهم المباشرة، مقارنة بالمجالس السابقة التي كانت تُعيَّن من دمشق وفق الولاء السياسي والأمني.

هذا المسار أنتج مجالس محلية أكثر قرباً من هموم الناس، لكنه في الوقت ذاته عكس طبيعة المجتمع المحلي بتوازناته العشائرية والقبلية والعائلية، ما أضفى على الإدارة الجديدة طابعاً مختلطاً بين السياسي والاجتماعي، وأحياناً بين الثوري والتقليدي.

ومع تفكك البنية الإدارية المركزية في المرحلة الانتقالية، لم يكن أمام المدن السورية سوى الاعتماد على نفسها. فبرزت إدارة يومية بخبرات محلية وفرتها المجتمعات بشكل مباشر في مدينة النبك التابعة لمحافظة ريف دمشق. فعلى سبيل المثال، تبرع الأهالي بأكثر من 400 ألف دولار لحفر بئر وصيانة شبكة المياه والمضخات، وفي مدن أخرى، تكفل السكان بتأمين الوقود للأفران لضمان استمرار إنتاج الخبز بشكل يومي.

وفي مدينة حمص برز نموذج آخر حيث تم تنفيذ مشروع في حي البياضة لتغذية بئرين بالكهرباء المعفاة من التقنين، ما أتاح تشغيلهما على مدار الساعة وزيادة ضخ المياه إلى الشبكة العامة. وجاء ذلك بعد جولة تفقدية أجرتها مؤسسة مياه حمص على الآبار ومحطات الضخ، ضمن خطة إعادة تأهيل واسعة، أعقبتها جلسة موسعة في المحافظة لبحث واقع مياه الشرب والتأكيد على تأهيل الآبار وضمان التوزيع العادل ودمج التشاركية المجتمعية في إدارة هذا المرفق الحيوي. 

وعكس هذا النموذج كيف تداخلت جهود الأهالي مع المؤسسات المحلية، لتقديم خدمة أساسية بطريقة مستقلة نسبياً عن المركز، بما يجسد صورة عملية عن إدارة محلية بخبرات محلية في مرحلة ما بعد سقوط النظام.

ولم تكن هذه التجارب المتنوعة مجرد استجابة ظرفية، بل عكست وعياً مجتمعياً متنامياً بضرورة تحمل المسؤولية المباشرة عن إدارة الخدمات، بعيداً عن انتظار قرارات أو إمكانيات من حكومة مركزية عاجزة. لقد جسدت بذلك بذور نموذج إداري جديد، قائم على المشاركة المحلية والخبرة الميدانية، يعيد تعريف علاقة المواطن بالدولة من موقع الفاعل لا المتلقي.

 

أمن محلي… وجغرافيا الفصائل

ولم تقتصر اللامركزية السورية على إدارة الخدمات، بل امتدت إلى البنية الأمنية التي تشكلت في ظل انهيار سلطة الدولة. فبعد سقوط الأسد، انضمت معظم الفصائل العسكرية شكلياً إلى وزارتي الدفاع والداخلية، غير أنها احتفظت بهياكلها المستقلة وخرائط انتشارها الجغرافية، وهو ما جعلها تتحول إلى كتل أمنية محلية الطابع أكثر منها تشكيلات وطنية تابعة للمركز.

وعززت طبيعة تكوين الفصائل هذا الاتجاه، إذ نشأت معظمها وفق الانتماء الجغرافي، ما أدى إلى بروز فصائل كاملة ينتمي أفرادها إلى مدينة أو بلدة واحدة. هذا العامل عزز منطق "الأمن المحلي"، حيث ينظر السكان إلى الفصيل باعتباره حامياً للمنطقة، لكنه في الوقت ذاته يكرس الانقسام الجغرافي ويضعف فكرة المؤسسة الأمنية الجامعة.

إلى جانب ذلك، أدى الضعف البنيوي في وزارتي الداخلية والدفاع إلى تفاقم اللامركزية الأمنية، ففي كثير من المدن، لم تخصص وزارة الداخلية سوى ضابط وعدد محدود من العناصر الأمنية لمدن يتجاوز عدد سكانها مئات الآلاف، ما جعل وجودها رمزياً أكثر من كونه فعالاً. هذا الفراغ الأمني دفع الأهالي إلى ابتكار حلول بديلة تتولى مهام ضبط النظام وتأمين الشوارع وحماية المرافق العامة.

وبطبيعة الحال، وفرت اللامركزية الأمنية نوعاً من الاستقرار النسبي، خصوصاً في المناطق المتجانسة اجتماعياً أو ذات الانتماء الواحد، حيث نجحت الفصائل في فرض الأمن والحد من الفوضى. لكن التجربة تبدو أكثر هشاشة في المناطق ذات التنوع الديني والعرقي، مثل السويداء وحمص والساحل وشمال شرق سوريا، حيث أدى تداخل الولاءات والارتباطات إلى إضعاف قدرة المجتمعات المحلية على إدارة أمنها بفعالية.

لذلك يطرح استمرار هذه الحالة من الأمن المجزأ، سؤالاً محورياً حول مستقبل سوريا: هل يمكن تحويل هذا الواقع إلى نموذج لامركزي منظم يعترف بالأمن المحلي كجزء من المنظومة الوطنية؟ أم أن تعدد الكتل المسلحة سيظل عقبة أمام بناء مؤسسة أمنية موحدة تضمن وحدة الدولة وسلامتها؟

 

اقتصاد مناطقي وإعمار بالتبرعات

إلى جانب الإدارة والأمن، برز الاقتصاد المحلي كمظهر آخر للامركزية. فقد شهدت البلاد حملات تبرع مناطقية موجهة لإعادة إعمار المحافظات، تحت إشراف الحكومة المركزية شكلياً، لكن بآليات تضمن بقاء الأموال في نطاق المحافظة. هذه الحملات رسخت فكرة التمويل الذاتي، وحولت السكان إلى الممول الأول للمشاريع، بعد أن كانت الدولة المركزية تحتكر ميزانيات التنمية.

وفي الشمال السوري، برزت محافظة إدلب عام 2025 كمثال واضح على قوة المبادرات المجتمعية في دعم اللامركزية الاقتصادية والخدمية. ففي 26 أيلول 2025، أُطلقت حملة واسعة بعنوان "الوفاء لإدلب"، جمعت أكثر من 208 مليون دولار من تبرعات أبناء المحافظة والمغتربين، خُصصت لإعادة إعمار البنية التحتية المدمرة ودعم المشاريع الخدمية داخل إدلب حصراً.

وإلى جانب هذه الحملة الكبرى، شهدت بلدة تفتناز مبادرة محلية تحت شعار "تفتناز بدنا نعمرها"، جمعت ما يزيد على 2 مليون و700 ألف دولار، لتأهيل المرافق الحيوية في البلدة، من مياه وكهرباء وطرقات. هذه الأمثلة تظهر كيف تحولت إدلب وبلداتها إلى فضاء عملي لتجربة التمويل المناطقي والإعمار الذاتي، حيث يتكامل دور الأهالي والمجالس المحلية والفعاليات المدنية في إدارة الشأن العام، بعيداً عن مركزية الدولة التقليدية.

 

تحديات اللامركزية السورية

ورغم أن اللامركزية أظهرت مرونة المجتمع السوري وقدرته على التكيف، إلا أنها تواجه تحديات عدة، منها غياب الأطر القانونية، إذ لا تزال التجربة قائمة على ردود فعل وحلول محلية، دون تنظيم قانوني شامل، وعدم فعاليتها في المناطق ذات التنوع العرقي والديني مثل السويداء وحمص والساحل وشمال شرق سوريا، حيث تتعقد الإدارة بفعل التنوع، ما يهدد الاستقرار.

يضاف إلى هذه التحديات، تداخل الأمن والسياسة، لأن وجود الفصائل المسلحة ضمن المعادلة يعرقل أي تنظيم إداري مستقل، وضعف الموارد رغم حملات التبرع تظل الإمكانات محدودة أمام الحاجة الضخمة لإعادة الإعمار. ولا تقتصر إشكاليات اللامركزية على الداخل السوري فحسب، بل تمتد إلى الموقف الدولي والنقاشات الدستورية التي لا تزال مفتوحة.

 

الموقف الدولي والخيارات الدستورية

ولم تَعُد اللامركزية في سوريا مسألة داخلية بحتة، بل غدت محوراً رئيسياً في مواقف القوى الدولية المؤثرة على الملف السوري. فقد أكد الكرملين موقفه التقليدي الداعم لوحدة الدولة السورية، حيث قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف في 11 آذار/مارس 2025: "نريد أن نرى سوريا موحدة، مزدهرة، متطورة، يمكن التنبؤ بمسارها، وصديقة". وفي المقابل، عبرت السلطات السورية الانتقالية برئاسة أحمد الشرع، عن رفضها لأي صيغة تقسيم أو فيدرالية مفروضة، إذ جاء في بيان رسمي صدر في 27 نيسان/ابريل 2025: " نرفض بشكل قاطع أي محاولة لفرض التقسيم أو إنشاء كانتونات منفصلة تحت مسمى الفيدرالية أو الحكم الذاتي، من دون توافق وطني شامل".

أما الولايات المتحدة، فقد حذّر مبعوثها الخاص إلى سوريا في 22 تموز/يوليو 2025، من خطر تفكك البلاد في حال غياب إصلاح شامل، قائلاً: "من دون تغيير سريع وشامل، فإن سوريا مهددة بالانقسام، وعلى القيادة الجديدة أن تتكيف بسرعة مع هذا الواقع حتى لا تخسر الزخم الدولي الداعم لها". وفي الاتجاه نفسه، أعرب الاتحاد الأوروبي عن رغبته في دعم مرحلة جديدة في سوريا عقب قراره رفع جزء من العقوبات الاقتصادية في أيار/مايو 2025، حيث جاء في بيان رسمي: "يريد الاتحاد الأوروبي أن يبدأ مع سوريا بداية جديدة… نحن نمنح الحكومة السورية فرصة، لكننا نتوقع منها أن تنتهج سياسات شاملة داخل البلاد، تمتد إلى جميع مكونات الشعب ومختلف الجماعات الدينية".

 

أما على الصعيد الدستوري، فإن النقاش يدور حول ثلاثة خيارات أساسية:

1- اللامركزية الإدارية: هي النموذج الأبسط، حيث تبقى السلطة السيادية والسياسية بيد المركز، بينما تمنح المحافظات سلطات موسعة في مجالات الخدمات والتنمية المحلية.

2- اللامركزية السياسية أو "شبه الفيدرالية": تتيح للمحافظات أو الأقاليم مجالس منتخبة تتمتع بصلاحيات تشريعية وإدارية، ضمن دستور يحدد العلاقة بينها وبين المركز، مع بقاء قضايا السيادة "الخارجية، الجيش، النقد" بيد الحكومة المركزية.

3- الفيدرالية الكاملة: وهو خيار أكثر راديكالية، يمنح الأقاليم سلطة دستورية خاصة ودستوراً فرعياً، على غرار النموذج العراقي. لكن هذا الخيار يواجه رفضاً واسعاً داخلياً وخارجياً، نظراً لما يحمله من مخاطر تفكك الدولة.

النقاش حول هذه النماذج لم يُحسم بعد، لكنه يشكّل حجر الأساس لأي تسوية سياسية مقبلة. فبينما يطالب السوريون بمأسسة ما تحقق من تجارب محلية، تسعى عدة أطراف إلى صياغة حلٍّ يضمن وحدة الدولة ويمنع الانهيار، مع الاعتراف الضمني بأن المركزية القديمة لم تعد قابلة للحياة.

 

نحو صياغة جديدة للدولة

وبلا شك أثبت السوريون خلال سنوات الصراع وما تلاه أنهم قادرون على إدارة شؤونهم بعيداً عن قبضة المركزية الصارمة. فمن المبادرات الخدمية المحلية، إلى التجارب الأمنية والاقتصادية الذاتية، تكرّست اللامركزية كأمر واقع لا يمكن تجاهله. غير أن استمرارها بشكل ارتجالي ودون إطار قانوني أو دستوري، يهدد بتحويلها إلى مصدر انقسام وفوضى. وهنا تكمن المعضلة: فإما أن تتحول اللامركزية إلى مشروع وطني منظم يضمن مشاركة جميع السوريين ويحافظ على وحدة البلاد، وإما أن تبقى حالة انتقالية مرتبكة تمهّد لمزيد من التشظي.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث