تعالت في إسرائيل مؤخراً مزيد من الأصوات الداعية إلى توجيه الأنظار، على نحو شديد الانتباه أكثر، صوب الجبهة الشمالية مع لبنان. والانطباع الأول الذي يتبادر إلى الأذهان إثر دعوات كهذه، أن الدافع الأساسي لهذه الأصوات أن وقف إطلاق النار في قطاع غزة يتيح للجيش والمؤسسة الأمنيّة إمكان مثل هذا الأمر بصورة أكثر اتساعاً واستثماراً للموارد والقدرات والطاقات البشريّة مما كان حتى الآن، ولكن يبقى الأهم أن هذه الدعوات تأتي على خلفية تقديرات إسرائيلية متطابقة فحواها أنه بعد عام على وقف إطلاق النار، يتبيّن أن حزب الله بدأ بإعادة تنظيم صفوفه، وهو يجنّد مقاتلين جدداً، ويجد وسائل جديدة لتهريب السلاح (عبر البحر والجو، وأيضاً من خلال محاولات برية عبر سورية، يجري إحباط بعضها)، وذلك بعد محاولات النظام السوري الجديد منع نشاطاته على الأراضي السورية، وينشئ مصادر تمويل بديلة، عبر ناشطيه في أميركا الجنوبية وأوروبا وأفريقيا.
ونسبت تقارير إسرائيلية إلى مصادر في حزب الله، قولها إنه تمكّن من مساعدة أنصاره المتضرّرين من الحرب بمبالغ تصل إلى مليار دولار. كذلك ذُكر أن الحزب يحاول استخراج أسلحة وصواريخ من مخازن أصيبت في الهجمات الإسرائيلية، وبعضها أسلحة من شأنها أن تغيّر موازين القوى. علاوةً على ذلك، مثلما يرد في هذه التقارير، لا يزال الحزب يحظى بدعم جماهيري واسع في لبنان، حسبما تم الاستنتاج من المشاركة الكبيرة في مراسم إحياء ذكرى مرور عام على اغتيال أمينه العام حسن نصر الله، ويحافظ على تعاونه مع حركة أمل برئاسة رئيس البرلمان نبيه بري، الذي ينسّق بين الحزب والحكومة اللبنانية، بالإضافة إلى استمرار الدعم الإيراني له.
ثمة أكثر من مؤشر إلى أنه فيما يتعلق بلبنان وحزب الله، فإن سياسة الحكومة الإسرائيلية التي تحظى بتأييد المؤسسة الأمنية تقضي، وفقاً لما يُنشر في وسائل إعلام إسرائيلية من تقارير وتحليلات، بما يلي: الاستمرار في العمليات العسكرية الإسرائيلية الرامية إلى إضعاف حزب الله ومنع إعادة بناء قوته من جهة، ومن جهة أخرى العمل في موازاة ذلك، بالأساس عبر الولايات المتحدة، على الدفع قدماً بمسار سياسي يشمل خطوات لتعزيز القيادة والجيش اللبنانيَّين، ووضع مطالب أمام الجانب اللبناني في كل ما يخصّ تعامله مع حزب الله وسلاحه.
بشكل عام، يمكن إجمال ما تفيد به آخر المستجدات فيما يتعلّق بلبنان في المستوى الإسرائيلي على الوجه الآتي:
أولاً، ترى أبرز معاهد أبحاث الأمن القومي في إسرائيل أن من توصف بأنها "القيادة الجديدة" في لبنان اتخذت يوم 5 آب/ أغسطس الماضي، قرارات وصفت بأنها "تاريخية" بشأن جمع السلاح من كل الميليشيات في لبنان، بما في ذلك حزب الله، وطلبت من الجيش اللبناني وضع خطة مفصلة لتنفيذ هذا القرار. كذلك اعتمدت يوم 7 آب/أغسطس 2025، اقتراحاً أميركياً لحلّ مع إسرائيل بالتدريج. ولكن يُشار في الوقت عينه إلى أن معارضة حزب الله الواضحة، والإدراك أن الجيش اللبناني لا يستطيع تنفيذ الخطة، أدّيا إلى تراجُع تلك القيادة عن القرار في 5 أيلول/سبتمبر الماضي.
وخلال النقاش الذي دار- كما ورد في التقارير الإسرائيلية- قدم قائد الجيش اللبناني خطة لنزع السلاح بالتدريج، بحسب التقسيم الجغرافي، لكنها لا تتضمن جدولاً زمنياً للتنفيذ، وتطلب أخذ قدرات الجيش المحدودة في الحسبان. وتؤكد المقاربة الإسرائيلية الأمنية أنه من الناحية الفعليّة، يعمل الجيش اللبناني بشكل محدود في الجنوب اللبناني، ويتجنّب الصدام مع حزب الله، ويركّز جهوده على جمع السلاح من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وحتى ذلك تقوم به فقط عناصر من حركة فتح، وفقاً لاتفاق بين لبنان ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس جرى التوصل إليه في أيار/ مايو 2025.
ثانياً، في سياق متصل مع ما ورد أعلاه، تشير جلّ التحليلات الإسرائيلية إلى ما تصفه بأنه "مثابرة الحكومة والجيش في إسرائيل"، منذ وقف إطلاق النار مع حزب الله، على تنفيذ "وثيقة التفاهم الجانبي" (مع الولايات المتحدة)، والتي تمنح الجيش الإسرائيلي حرّيّة تصرّف تامة ضد أي نشاط من حزب الله يتم إدراجه إسرائيلياً بأنه "يعيد تهديد سكان منطقة الجليل". وبحسب تقرير أحد المراسلين الإسرائيليين الميدانيين في الجبهة الشمالية (من صحيفة "معاريف")، "لم تعد السياسة الإسرائيلية جزّ العشب، ولا الاحتواء، ولا محاولة منع التصعيد، والواقع الجديد الذي نراه بوضوح وراء السياج الحدودي (مع لبنان)، هو فرض واقع أمني حازم ويومي لا مساومة فيه"، وفي ضوء ذلك فإن محاولات حزب الله رفع رأسه، وإعادة بناء نقطة مراقبة، وتهريب أسلحة، أو حتى الاقتراب من البنية التحتية المسلحة التي أعدّها وتم تدميرها، تواجه "بردٍّ هجومي"، على ما يؤكد هذا المراسل نفسه، إذ إن الجيش الإسرائيلي يقف على الخطوط الأمامية وما وراءها، وفي مواجهة السكان، ويبادر ويهاجم ويقتلع كل جذور العسكرة والتسلح. وينقل المراسل نفسه، بالإضافة إلى غيره، عن قادة عسكريين إسرائيليين قولهم إن هذا النموذج يثبت فاعليته، ويجب أن يكون الواقعَ الوحيد الذي نسعى له ونتبنّاه أيضًا في الجنوب إزاء قطاع غزة".
ثالثاً، منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله حيّز التنفيذ، تتكرّر في الخطاب الإسرائيلي لازمة عدم تقديس الوضع القائم، أي وضع وقف إطلاق النار والاكتفاء بذلك. وتقف من وراء هذه اللازمة تحذيرات يصعب حصرها، فحواها أنه لا يجوز إدارة الظهر لوقائع آخر عامين، ولا بُد من استخلاص الدروس منها ومما شهده هذان العامان من حرب مستمرة تأدّت عن مفاجأة استراتيجية كبرى. ووفقاً لتحليلات إسرائيلية كثيرة، فإن أحد أسباب هذه المفاجأة يعود إلى أخطاء ارتكبتها إسرائيل ويتعين عليها أن تتعلّم منها، ما "يعينها على رسم استراتيجية الحاضر". وفي إطار تعداد تلك الأخطاء، يُشار على نحو خاص إلى الاستهانة بالخصم، وإلى الغرور أو الثقة المفرطة، وكذلك إلى تقديس الوضع القائم.
وبرأي بعض هذه التحليلات فإن تقديس الوضع القائم ينطبق على ما كانت عليه الحال إزاء قطاع غزة وحركة حماس، قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، مثلما ينطبق على مفاجأة استراتيجية كبرى مماثلة قبل أكثر من 50 عاماً، وهي مفاجأة حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، حيث أنه عشية تلك الحرب كانت إسرائيل مقتنعة بأن وضعها كان أفضل من أي وقت مضى، ولذلك رأت أن الأمر الصائب هو التمسك بالوضع القائم وتجنّب أي خطوة، سياسية كانت أم عسكرية!
