في صيف 2025، ارتفعت في شوارع عدة مدن حول العالم راية غير مألوفة، علم أسود تتوسطه جمجمة ترتدي قبعة قشية. لم يكن المشهد من إحدى حلقات الأنمي "AMINE " الياباني "وان بيس"، بل من مسيرات واحتجاجات امتدت من جاكرتا إلى كاثماندو وصولاً إلى مرسيليا. هكذا تحول شعار طاقم "سترو هات"، إلى أيقونة احتجاج عابرة للحدود، تحمل في طياتها قصة عن الحرية والتمرّد، من شاشة الخيال إلى قلب السياسة.
من الخيال إلى الرمز
في عالم "وان بيس"، يبحر لوفي ورفاقه بحثاً عن الحرية في مواجهة "حكومة العالم" التي تجسّد قمع السلطة المركزية. علمهم لم يكن مجرد شعار قراصنة، بل شعار لصراع أبدي بين الحلم والسلطة. لذلك بدا انتقاله إلى الواقع سلساً، صورة بسيطة لكن محمّلة بسردية يفهمها أي جيل شبابي يتوق للتحرر.
الشرارة الإندونيسية
بدأ كل شيء في العاصمة الإندونيسية جاكرتا، في شهر تموز/يوليو 2025، حين دعا الرئيس الإندونيسي برابوو سوبانتو لرفع العلم الوطني احتفالاً بالذكرى الثمانين للاستقلال. لكن احتجاجاً بدأه سائقو شاحنات ضد سياسات الحكومة الاقتصادية، تحول سريعاً إلى موجة رفعت علم "القبعة القشية" بديلاً عن العلم الإندونيسي الأحمر والأبيض.
طلاب وفنانون التقطوا الشعار بسرعة، وامتلأت الجدران بلوحات الجمجمة القشية. وبينما وصفت شخصيات رسمية الظاهرة بالخيانة، هددت وزارة الأمن بملاحقة رافعي الشعار، في حين رأت منظمات حقوقية أن تجريم الشعار لن يؤدي إلا إلى تأجيج الغضب الشعبي.
نيبال من الشارع إلى السياسة
بعد أسابيع من الحدث الإندونيسي، رفرف العلم نفسه في كاثماندو. فقد فجر قرار الحكومة حجب 26 منصة تواصل اجتماعي، غضباً واسعاً، سرعان ما تحول إلى احتجاجات دامية خلّفت عشرات القتلى ومئات الجرحى. مع اتساع الحراك، برز شعار "وان بيس" وسط الحشود المطالبة بالإصلاح ومكافحة الفساد. النتيجة لم تكن مجرد مشهد رمزي، بل مسار انتقالي غير مسبوق شمل استقالات وزارية، وإسقاط حكومة، وتغييرات على مستوى السلطة العليا.
في 10 أيلول/سبتمبر، خرجت في فرنسا احتجاجات "فلنعطّل كل شيء"، ضد خطط التقشف الحكومية. وسط رايات النقابات والعلم الوطني، ظهرت أعلام "وان بيس" في مرسيليا ومدن أخرى. صحيح أن الظاهرة لم تكن واسعة، لكنها لافتة، رمز ياباني المنشأ، انتقل عبر الميمز "Memes" والفيديوهات القصيرة، ليصبح لغة احتجاج مفهومة في أوروبا.
أربعة أسباب لنجاح العلم:
• بساطة مع قصة جاهزة: صورة مباشرة تحمل حكاية "أبطال يقاتلون الطغيان".
• سهولة النسخ والانتشار: يمكن طباعتها ورسمها بسرعة، وتنتشر كالنار عبر البث المباشر والمقاطع القصيرة.
• مرونة سياسية : ليست شعار حزب أو أيديولوجيا، بل مساحة مفتوحة لتعدد المطالب.
• قدرة على المراوغة: يمكن تبريرها بأنها مجرد أنمي، ما يضع السلطات في حرج إن بالغت بالقمع.
أثبتت التجربة الإندونيسية أن مصادرة الراية تحولت إلى وقود إضافي للحراك. التحذيرات الرسمية أصبحت مادة للسخرية، والمصادرات أثارت تعاطفا مضاداً. كلما اعتبرت السلطة العلم تهديداً سيادياً، تعززت مكانته الاحتجاجية.
شبكة رموز مشتركة
القبعة القشية ليست وحدها. قبلها رأينا انتشار أقنعة "فانديتا" أو شارة الأصابع الثلاثة من "Hunger Games". كلها أمثلة على رموز من الثقافة الشعبية تتحوّل إلى أدوات سياسية عندما يلتقي الخيال بجماعة تبحث عن لغة سريعة وموحّدة.
فالعلم لا يغير السياسات وحده، لكنه يساهم عبر توحيد شعار يسهل على الإعلام والجماهير رواية القصة، زيادة الضغط على السلطات كما حدث في نيبال وإندونيسيا، وتوفير أداة عابرة للحدود تعبر عن قضايا مختلفة يجمعها رفض الفساد وتراجع العدالة.
يميّز "القبعة القشية" وجود جمهور عالمي جاهز بفضل نجاح "وان بيس"، بجانب سردية تشرعن التمرّد الأخلاقي ضد سلطة جائرة، مع قابلية للتكييف بجوار أعلام وطنية أو نقابية دون أن تفقد معناها الكوني.
علم "القبعة القشية" ليس برنامجاً سياسياً، لكنه مفتاح سردي يختصر المعركة الأخلاقية ويخلق لغة احتجاج مشتركة. في إندونيسيا أثار نقاشاً حول حرية التعبير والرموز الوطنية، وفي نيبال رافق تحولات سياسية ملموسة، أما في فرنسا فكشف عن عولمة قاموس الاحتجاج. لكنه يظل رمزاً هشاً، قوته في الحكاية، وضعفه في غياب التنظيم.
وفي النهاية يبرز سؤال مفتوح، هل سنرى "القبعة القشية" ترفرف في سماء بيروت قريبا؟
