لم تكن مفاجِئة لكنها كانت مُحرجة سواء بتوقيتها أو بشموليتها، تلك هي حزمة العقوبات التي أصدرتها مؤخراً وزارة الخزانة الأميركية ضد أفراد وأطراف عراقية، وصفتهم الخزانة بأنهم يعملون على "الالتفاف على العقوبات الأميركية" المفروضة على إيران، إضافة إلى مسؤوليتهم عن مقتل أفراد من القوات الأميركية واستهداف مصالح أميركا وحلفائها في الشرق الاوسط.
وبالرغم من أن هذه العقوبات لم تكن الاُولى، فقد سبقتها عقوبات مشابهة في فترات متباعدة، إلا أن توقيتها أحرج رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي يحاول جاهداً إعادة ترميم علاقته بالإدارة الأميركية، خصوصاً في وقت يستعد فيه لخوض انتخابات برلمانية ستلعب دوراً هاماً في تحديد ورسم مستقبله السياسي للمرحلة المقبلة، خصوصاً تطلعه لولاية ثانية ورئاسة الحكومة المقبلة.
البيان الذي أصدرته الخزانة الأميركية، قال إن العقوبات تمت بناءاً على "تقييمات استهدفت أفراداً وشركات وسفناً" استخدمت الأراضي العراقية لتهريب النفط الإيراني وبيعه على أنه نفط عراقي، لمساعدة طهران في الالتفاف على العقوبات الأميركية، إضافة إلى عمليات تهريب الأسلحة والانخراط بالفساد العام في العراق.
من بين الجهات والأشخاص الذين شملتهم العقوبات، "شركة المهندس" التابعة لهيئة الحشد الشعبي، وهي شركة حكومية تم تأسيسها قبل نحو عامين، وصفها البيان بأنها "تكتل تجاري عراقي ضخم، وتُستخدم كواجهة لتقديمها دعماً مادياً ومالياً وتقنياً لكتائب حزب الله العراقية وفيلق القدس الايراني."
ومن بين الأسماء التي تم استهدافها بهذه العقوبات، عدد من الشخصيات التي تم ذكرها بالإسم، قال البيان إنهم متهمون بتمويل فيلق القدس، إضافة إلى عمليات غسيل الأموال. ومن بين هذه الاسماء برز اسم رئيس اللجنة الاُولمبية العراقية عقيل مِفتن، والذي قال البيان إنه وشقيقه، الذي شملته بالعقوبات أيضاً، يمتلكان بنكاً عراقياً مرتبطاً بفيلق القدس الإيراني، وإنه "يستغل منصبه كرئيس للجنة الاُولمبية لأغراض الفساد وغسيل عشرات الملايين من الدولارات وتهريب النفط والمخدرات".
الموقف الحكومي
لم تتاخر الحكومة العراقية في بيان موقفها، معبرة عن أسفها لبيان الخزانة الأميركية ووصفته بأنه "يتنافى مع روح الصداقة والإحترام المتبادل" بين البلدين. وقالت الحكومة إن اتخاذ مثل هكذا إجراء، "من دون تشاور أو حوار مسبق، يشكل سابقة سلبية في نهج التعامل بين الدول الحليفة". وأضافت أن رئيس الوزراء "وجّه بتشكيل لجنة عليا تتولى مراجعة القضية ذات الصلة، على أن ترفع تقريرها وتوصياتها خلال شهر بما يلزم من إجراءات قانونية وإدارية".
ومع أن الوقت لا يزال مبكراً للحديث عن الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الحكومة، إلا أن الاعتقاد الذي أحدثه بيان الخزانة الأميركية، هو أنه وضع رئيس الوزراء، سواءً الحالي أو القادم، في زاوية ضيقة وأسقط من يديه كثير من الخيارات، خصوصاً في الطريقة التي بات يُفترض معها التعاطي سياسياً وقضائياً، وربما أمنياً أيضاً، مع الجهات والأسماء التي طالتها العقوبات، وما قد يتسبب به من حرمان سياسي لهذه الأطراف، خصوصاً في السلطة التنفيذية ومؤسساتها.
إن مالا يمكن نكرانه أو التغاضي عنه، هو أن الأطراف التي شملتها العقوبات، تمتلك من القوة والنفوذ ما يجعل أي إجراء يمكن أن تتخذه الحكومة في الوقت الراهن لتحييدها أو تحجيمها، تحدياً كبيراً لرئيس الوزراء، لأنه قد يدفع باتجاه المواجهة المسلحة ويضرب الإستقرار في البلاد بالصميم، وهذا ما لا يتمناه أحد.
ثنائية السلاح والسياسة
أعاد قرار الخزانة الأميركية إلى الواجهة مرة اُخرى، الجدل في العراق بشأن "ثنائية السلاح والسياسة" التي تحولت في السنوات الأخيرة لتصبح ظاهرة عراقية، وتشكل واحدة من تجليات المشهد السياسي في عراق ما بعد العام 2003.
فالفصائل المسلحة التي تضمنها قرار الخزانة الأميركية الأخير، وقبلها قرارات ممثالة طالت فصائل أخرى، باتت أسماءها تمثل مرتكزاً في العملية السياسية العراقية، تمتلك جميعها حضوراً سياسياً متميزاَ، ليس فقط في السلطة التشريعية بل والتنفيذية أيضاً. وبفضل هذا الحضور السياسي، نجحت هذه الفصائل من فرض نفسها على جميع مفاصل الحياة، حتى بات حضورها يطغى في كثير من الأحيان على حضور الدولة في العديد من هذه المفاصل، سواءً الرسمية أو غير الرسمية.
وحتى تكتمل الصورة، فان هذه الفصائل ومن خلال أجنحتها السياسية، تستعد حالياً للمشاركة في الانتخابات البرلمانية المتوقع إجرائها منتصف الشهر المقبل. ومع دعوة هذه الفصائل لأتباعها للمشاركة الواسعة بالانتخابات، فإن المتوقع هو أن تحافظ هذه الفصائل على وجودها داخل المؤسسة التشريعية، وهذا يعني مزيد من الحضور السياسي المستقبلي لها.
وليس بعيداً عما يجري، يرى عدد من المحاميين أن مشاركة هذه القوى السياسية بالانتخابات التشريعية، تُعد مخالفة للدستور العراقي الذي يمنع مشاركة أي كيان سياسي لديه ارتباطات بالمؤسسة الأمنية. وهو أمر ينطبق على هذه الكيانات السياسية باعتبارها امتداداً لفصائل مسلحة تنمتي لهيئة الحشد الشعبي، وهي مؤسسة أمنية رسمية.
وكان عدد من المحامين قد تقدم قبل شهر تقريباً، بدعوى قضائية لمنع هذه الكيانات السياسية من المشاركة في الانتخابات، لكن الدعوى لم يتم البتّ بها حتى الآن.
ومع استمرار محاولات فرض "ثنائية السلاح والسياسة" على الواقع العراقي، بالترهيب تارة وبالترغيب تارةً أخرى، فإن القناعة التي توفرت لكثيرين، هي أن بقاء هذا الحال لم يعد مستساغاً، لأنه يعني الإبقاء على وضع مرتبك للدولة العراقية وللعملية السياسية برمتها. فقد شكّل هذا التواجد مشكلة كبيرة للدولة العراقية، ليس داخلياً فحسب، بل وخارجياً أيضاً. فهذه الفصائل المسلحة رفضت في مواقف عديدة الانصياع لقرارات الحكومة، حتى بات وجودها يمثل "دولة موازية" للدولة العراقية.
وإزاء هذا التشابك بالمواقف، فان ما لا تُخطئه العين، هو الموقف الواسع الرافض لما يجري. هذا الموقف الذي يؤكد أنه وعلى الرغم من كل ما تملكه هذه الفصائل من سطوة ونفوذ، والذي أوجد في لحظة ما شكلاً من "الاستحقاق" السياسي لها، فإن هذا "الاستحقاق" لم يعد يجد له مبرراً للبقاء والاستمرار.
ردود الفعل
في أول رد فعل تجاه قرار الخزانة الامريكية، أعلن المتحدث باسم كتائب حزب الله العراقية أبو علي العسكري، أن "العقوبات ضد أشخاص زعمت الخزانة أنهم ينتمون للكتائب، مثيرة للسخرية ودليل ضعف المعلومات وهشاشة منظومتهم، ومحاولة للاساءة للمقاومة عبر كيل التهم الكيدية." وأضاف العسكري أن هذه الاتهامات لن تثني فصائل المقاومة من الإستمرار بدورها، داعياً من وصفهم بالمزايدون "إلى الكف عن سلوكهم والا سنضطر الى الحديث بالتفاصيل".
أما اللجنة الاولمبية العراقية فقد وصفت قرار الخزانة بأنه يتضمن معلومات "مغلوطة ومفبركة هدفها خلط الأوراق والإساءة لرئيسها الذي لا علاقة له بالإدعاءات ألتي تضمنها القرار ولا تمت للحقيقة بصلة".وبعيداً عن كل ماتقدم، فمن المؤكد هو أن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بات أمام خيارات صعبة لن تنفع معها سياسة مسك العصا من الوسط. إن عدم إتخاذ اجراءات ناجعة إزاء ما تضمنه قرار الخزانة سيضعه وحكومته في موقف محرج، وقد يعرض مستقبله السياسي كرجل دولة إلى الخطر، والإهم أنه قد يطيح بتطلعاته في السعي للفوز بولاية ثانية لرئاسة الحكومة
