سارت المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف اطلاق النار الدائم وإنهاء الحرب في غزة بطريقة مرضية، مع إنجاز تبادل الأسرى الأحياء ووقف الإبادة والمقتلة والمجاعة، وبدء إدخال المساعدات الإنسانية، ورغم التعثر في إعادة حماس جثث الأسرى الإسرائيليين لديها لأسباب لوجستية وموضوعية، تتعلق بالدمار الهائل في غزة، والحاجة لمعدات وخبرات فنية خارجية، إلا أن المرحلة الأولى لا تتعثر بالعموم، ولن تكون عودة إلى الحرب كما شهدناها خلال العامين الماضيين، لكن مع مخاوف جدية باحتمال عدم الشروع الجدي في المرحلة الثانية الصعبة والشائكة من الخطة، ومخاوف من أن يبقى الحال على ما هو عليه لا تتعلق فقط باحتمال استنساخ نموذج جنوب لبنان الذي سنقرأه لاحقاً، وإنما بإبقاء الواقع الراهن لجهة سيطرة حماس الأمنية، وبأسلحة خفيفة ودون إعادة بناء ترسانتها العسكرية على أقل من نصف قطاع غزة، بدون إعادة اعمار جدية بما يشبه ما كان قائماً مساء 6 تشرين الأول/إكتوبر 2023، والعمل بالتالي على تقسيم فعلي للقطاع وفق ما يسميه الوسيط الأميركي بدعم إسرائيلي، بالمناطق الآمنة بحيث يمكن تطبيق المرحلة الثانية، وعلى الأقل الشروع بإعادة إعمارها، مع ترك القسم الآخر وشأنه ويكون المشهد سوريالياً، ومشابهاً تقريباً لما كان قبل الحرب بين غزة والضفة الغربية ولكن داخل غزة نفسها.
إنجاز المرحلة الأولى
بتفصيل أكثر، لم تخلق قصة إعادة جثث القتلى من الرهائن الإسرائيليين معضلة تنسف الاتفاق وخطة ترامب، غير أنها ستكون بالتأكيد عائقاً أمام الانتقال للمرحلة الثانية والمماطلة بظل المواقف داخل حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، وحتى عائلات الأسرى والرأي العام المطالبة بعدم الانتقال الجدي إلى المرحلة الثانية قبل إنجاز المرحلة الأولى كاملة.
وعليه فلن تمنع إسرائيل إدخال المساعدات الانسانية ولو ليس بالوتيرة المتوقعة والمتفق عليها، أي 600 شاحنة يومياً لكنها لن تستطيع ايقافها تماماً، ما سيؤثر للأسف على التعافي المبكر والإيواء العاجل، مع الحاجة إلى إغراق غزة بالمساعدات الغذائية والطبية، بما في ذلك مستلزمات الإيواء من خيم وبيوت جاهزة وإعادة تأهيل وتشغيل البنى التحتية الحيوية من مياه وكهرباء وصرف صحي ومستشفيات ومدارس.
إضافة إلى قصة الجثث والمماطلة الإسرائيلية، ثمة معضلات أخرى تتمثل برغبة حماس في إبراز نفسها كقوة فاعلة مسيطرة مع عمليات إعدام ميدانية صادمة، مستهجنة وغير مبررة بالتأكيد، لمن تتهمهم بالعمالة وسرقة المساعدات، وابتزاز للمواطنين مع تحاشي كبار التجار من مصاصي دماء الناس وقوتهم زمن الحرب.والمحزن أن هذا الأمر تحديداً قد لا تعارضه إسرائيل، رغم الخطاب الدعائي سعياً منها للحفاظ على الواقع الراهن لجهة السيطرة على أكثر من نصف القطاع (55 بالمئة تقريباً) بسلة غذائه ومناطقه الحيوية الحدودية التي تلامس نسبة التدمير فيها مئة في المئة، تحديداً بمدن بيت لاهيا وبيت حانون ومعبرها القريب "ايريز"، حيث تدخل غالبية المساعدات الإنسانية للكثافة السكانية بغزة والوسطى، إضافة لمدينة رفح بمعبرها ومحورها ومنفذها نحو العالم الخارجي، والسعي لمنع إعادة إعمار جدية وضخمة لإبقاء غزة مدمرة وكومة من الأنقاض، منشغلة بنفسها وعاجزة نهائياً عن تهديد إسرائيل.
من هذه الزاوية تحديداً يجب النظر إلى تصريحات القيادي بحماس محمد نزال، المتضمنة هدنة من ثلاث لخمس سنوات، والسيطرة الأمنية الميدانية الفعلية، والتنازل عن السلطة شكلاً مع الاحتفاظ بالسيطرة الكاملة على الحكم، وفق قاعدة من يملك السلاح يملك القرار، ورغم أن هذه السيناريو يعني تلاشي أي احتمال لإعادة الإعمار، حيث لن تدفع الدول المانحة (85 في المئة منها على قطيعة مع حماس وتحظر قوانينها التعامل معها وتتهمها بالإرهاب) في ظل الشك وانعدام اليقين باحتمال عودة الحرب في مرحلة قادمة.
هذه التصريحات تعبر كذلك عن الرغبة بالعودة إلى مساء 6 تشرين الأول/أكتوبر، وهذا كان الحقيقة وللأسف موقف حماس طوال الوقت منذ بداية الحرب، بينما تقول الأمم المتحدة إن عملية إعادة الإعمار بهذه الحالة -اذا حصلت أصلاً- ستستغرق قرون لا عقود فقط في حالة تغيير الواقع كلياً.
المناطق الآمنة
لا يقل خطورة عما سبق استغلال الولايات المتحدة وحتى إسرائيل، المعطيات السابقة لخلق ما يمكن توصيفه بالمناطق الآمنة، وغزة أخرى خارج سيطرة حماس، مع استعداد لاستقبال من يريد اللجوء إليها من مناطق سيطرة الحركة، علماً أن جل سكان القطاع يتكدسون الآن في نصف أراضيه الممتدة من مدينة غزة إلى الوسطى ومواصي خانيونس، وللمفارقة هي نفسها التي تحدثت عنها اسرائيل ذات مرة كمنطقة إنسانية تتلقى المساعدات ولكن مع منع الدخول والخروج منها.
سيناريو غزة الأخرى والمناطق الآمنة خارج سيطرة حماس وبحسب تعريف مسؤول أميركي، يتضمن إدارة ذاتية وقوة شرطية محلية وإدخال المساعدات وإعادة إعمار ولو جزئية أو مصغرة كذلك.
هذا السيناريو الخطر يتضمن عدم العودة للحرب والقتل أو الإبادة والمجاعة، لكنه يعنى تكريس الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني، ليس بين غزة والضفة الغربية، وإنما داخل غزة نفسها، وبالسياق عرقلة خطط إصلاح السلطة وتوحيد المؤسسات، وبالتأكيد إزالة الأفق والمسار السياسي عن جدول الأعمال.
وعليه وما نحن بصدده خطير جداً، حتى لو كان في السياق النظري والفكري، وبالتأكيد ثمة مجال واسع للعمل فلسطينياً وعربياً وأوروبياً ودولياً منسق لتخفيف سلبيات خطة ترامب، وجلب تفويض وغطاء أممي شرعي لها و إزاحة أو تحجيم توني بلير ومنع مجلس السلام من التدخل مباشرة في إدارة غزة وجعل الأمر منوط حصراً بلجنة وطنية مصداقة وكفؤة ونزيهة ضمن توافق فلسطيني واسع مع إصلاح السلطة وقيادتها عملية إعادة الإعمار، وخوض المقاومة والكفاح متعدد المستويات، على الطريق الشاق والطويل نحو الدولة المستقلة وتقرير المصير.
