تشهد العاصمة السورية دمشق واحدة من أكثر جولات المفاوضات حساسية منذ تحرير البلاد واسقاط النظام المخلوع، بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والحكومة السورية، في إطار تفاهمات ترعاها أميركا وتتابعها أنقرة وموسكو عن كثب.
هيكلية جديدة
اللقاءات الأخيرة التي تحدث عنها القائد العام لـ"قسد" مظلوم عبدي مع الرئيس أحمد الشرع وحكومة دمشق، تكشف عن اتفاق مبدئي يضع الأساس لعملية دمج تدريجي لـ"قسد" داخل هيكل الجيش السوري، مقابل ضمانات سياسية وأمنية تحافظ على استقلالها النسبي ودورها في محاربة الإرهاب.
وتم تشكيل لجنة مشتركة بين وزارة الدفاع السورية وقيادة "قسد" لتطبيق آلية الدمج بناء على اتفاق 10 آذار/مارس، بحيث تشمل عشرات الآلاف من المقاتلين وآلاف العناصر الأمنية المنتشرين في الحسكة والرقة وديرالزور والطبقة وعين العرب (كوباني).
التشكيلات الكبرى ومناطق التمركز
سيُدمج مقاتلو "قسد" ضمن تشكيلات كبيرة للجيش السوري، بحيث يتمركزون وفق الجغرافيا السابقة للانتشار، مع تكوين قيادة للمنطقة العسكرية الشمالية الشرقية تحت إدارة مشتركة بين قيادات الجيش وقيادات "قسد". هذا يعني أن السيطرة على المناطق التي كانت تحت نفوذ "قسد" ستعود شكلياً للجيش السوري، لكن بمشاركة "قسد" في الإدارة العسكرية والأمنية لضمان عدم تهميشها، مع الحفاظ على وجودها في المواقع الحساسة مثل خطوط التماس والمناطق ذات الكثافة السكانية الكردية والعربية.
الفرق بين طلب "قسد" والاتفاق الحالي
قبل المفاوضات، كانت قسد تطالب بالاندماج ككتلة واحدة مع الاحتفاظ بهياكلها القيادية وإداراتها الذاتية بشكل كامل، أي ككيان شبه مستقل داخل الدولة السورية.
أما وفق تصريحات مظلوم عبدي أمس، فإن الاندماج سيحدث ضمن تشكيلات كبرى للجيش السوري، أي أن "قسد" لن تظل كتلة مستقلة، بل ستصبح جزءاً من الجيش مع توزيع المناصب القيادية والتنسيق مع الدولة، مع ضمانات بعدم تهميش عناصرها.
الفرق الأساسي، أن "قسد" لم تتنازل عن مطلب حماية عناصرها ومكتسباتها، لكنها قبلت تغيير صيغة الاندماج من كتلة مستقلة إلى اندماج تدريجي ضمن هيكل الجيش، مع الحفاظ على دورها الأمني والسياسي ضمن الإطار الوطني.
الإدارة الذاتية تحت المجهر
في الشق المدني، تتناول المفاوضات مستقبل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، التي يُتوقع أن تتحول إلى مجالس مدنية منتخبة محلياً تتبع للمحافظين المعينين من الدولة، مع بقاء بعض الرموز الإدارية المحلية لضمان استمرار الخدمات وعدم انهيار المؤسسات القائمة.
كما يجري بحث دمج قوات "الأسايش" ضمن قوى الأمن الداخلي السورية، تحت إشراف وزارة الداخلية، في عملية تدريجية تتجنب أي فراغ أمني في مناطق النفوذ السابقة لـ"قسد".
التحفظات الأميركية
الولايات المتحدة التي لا تزال تملك نفوذاً ميدانياً شرق الفرات، تتعامل بحذر مع هذا التقارب. فهي لا تمانع الدمج من حيث المبدأ، لكنها تشدد على استمرار مهام "قسد" في حراسة السجون والمخيمات التي تضم آلاف العناصر من تنظيم "داعش" وعائلاتهم، وتتمهل في نقل هذا الملف إلى دمشق خشية حدوث تسريبات أو عمليات تهريب، بالرغم من التصريحات الأميركة حول نقل ملف السجون الى دمشق، مما قد يهدد منظومة التنسيق الدولي في محاربة الإرهاب. لذلك تكتفي بدور المراقب حتى الآن، مع احتفاظها بخيارات مفتوحة لإعادة التموضع أو دعم "قسد" بشكل غير مباشر، في حال تعثرت المفاوضات.
تغير في الموقف التركي
من جهة أخرى، أشار مظلوم عبدي إلى وجود "مؤشرات على تغير إيجابي" في الموقف التركي حيال مشاركة "قسد" في الجيش السوري، وهو ما يثير اهتمام المراقبين. فأنقرة التي لطالما اعتبرت "قسد" امتداداً لحزب العمال الكردستاني، قد تكون تبحث عن تسوية جديدة تضمن نزع الصبغة الانفصالية عن شرق الفرات عبر ربطه مجدداً بالمؤسسات الرسمية السورية، لتجنب قيام كيان كردي مستقل على حدودها.
وبالرغم من ذلك، تبقى تركيا متوجسة من أي ترتيبات لا تتضمن تفكيكاً كاملاً للبنية الأيديولوجية والعسكرية لحزب العمال داخل "قسد".
إعادة هندسة السلطة شرق الفرات
ما يجري في دمشق يتجاوز الطابع العسكري البحت. إنه محاولة لإعادة هندسة السلطة في الشرق السوري على نحو يوازن بين السيادة المركزية والإدارة المحلية. فدمشق تريد استعادة السيطرة من دون الاصطدام بالقوى الكردية والعربية، و"قسد" تسعى للاندماج في الدولة من دون أن تُبتلع.
بهذا المعنى، يشكل الاتفاق المحتمل صيغة هجينة للسلطة: دولة واحدة بجيش موحد، لكن بهيكل إداري لامركزي يعترف بالتعددية السياسية والعرقية.
سيناريوهات ما بعد الاتفاق
نجاح المفاوضات قد يفتح الباب أمام تحول جذري في المشهد السوري، إذ سيمنح دمشق ورقة سيادة إضافية أمام المجتمع الدولي، بينما يتيح لـ"قسد" حماية وجودها تحت مظلة قانونية. لكن فشلها قد يعيد المنطقة إلى مرحلة التجاذب بين القوى المحلية والإقليمية، مع احتمال عودة المواجهات في حال تراجع الدعم الأميركي أو الروسي لأي طرف.
في جميع الأحوال، يمثل المسار الحالي اختباراً للإرادات: إرادة دمشق في تجاوز منطق الغلبة لصالح الشراكة، إرادة قسد في التحول من مشروع أمر واقع إلى مكون وطني شرعي، وإرادة القوى الدولية في إدارة الملف السوري بأقل كلفة سياسية ممكنة.
بين مشاريع السيطرة ومشاريع الدمج، تبقى مناطق شرق الفرات اليوم ساحة لإعادة رسم التوازنات السورية والإقليمية. فالدمج العسكري، إذا تم، لن يكون مجرد خطوة تنظيمية، بل مقدمة لإعادة تعريف الدولة السورية نفسها بعد أكثر من عقد على تفككها.
