جنوب سوريا: هل تكون روسيا الضامن للأمن تحت غطاء قوات دولية؟

مهيب الرفاعيالخميس 2025/10/16
الجولان نقطة مراقبة روسية.jpeg
الطرف الإسرائيلي يتعامل مع الجولان ببراغماتية أمنية
حجم الخط
مشاركة عبر

لا يُعاد اليوم فتح ملفّ الحدود السورية–الإسرائيلية بوصفه مسألة ميدانية فحسب، بل بوصفه امتحاناً لصياغة ترتيبات ما بعد الصراع وفق قواعد قابلة للتدقيق فقوات حفظ سلام أممية تعتبر مقاربة مختلفة لإدارة ما بعد الصراع عبر تدويل مضبوط لتقليص هامش المفاجآت الأمنية، وشرعنة تدريجية لسلطة ناشئة عبر الامتثال لأطر أممية يمكن التحقق منها؛ أي انتقال من منطق حيازة الأرض إلى منطق حيازة القواعد. في هذا التصور، تُصمَّم آليات رقابة مستقلة، وتُربط أي عملية انسحاب (سواء من قبل قوات الجيش الإسرائيلي أو قوات الحكومة السورية الجديدة) مقابِل بمنظومة تحقق متعددة الطبقات تشمل مراقبة ميدانية، آليات تبليغ مبكر، تدقيق على السلاح والموارد؛ وتُدرّج إجراءات التفكيك وإعادة الدمج للميليشيات ضمن مسار مؤسسي يُنهي اقتصاد العنف ويُثبت احتكار الدولة لاستخدام القوة. 

جوهر المقاربة أن تُقاس السيادة بالقدرة على فرض القانون لا بزخم الخطاب الدفاعي أو الهجومي، وأن يُقاس الأمن بانخفاض الحوادث لا بارتفاع نبرة التحذير، وأن يُقاس الاعتراف بمدى الالتزام بالإجراءات الأممية لا بحجم التصريحات السياسية والنشاط الدبلوماسي. بهذا المعنى، تتحوّل منطقة الفصل إلى مختبر سيادي–دبلوماسي، فيه توازنٌ بين طمأنة الجوار دون التنازل عن القرار الوطني، وفتح ممرات تمويل وإعمار مشروطة بإثباتات آمنة، وإدارة مخاطر تسرّب الفاعلين ما دون الدولة None-state Actors   عبر منظومة تحقق وتحييد، مع الحفاظ على مرونة تكيف تسمح بتعديل قواعد الاشتباك إن لزم الأمر. هذه محاولة واعية لتحويل الجمود المسلّح في الجنوب إلى إدارة مخاطِر محسوبة، تُعلي من قيمة القياس والتحقق والمساءلة على حساب الارتجال والاندفاع، وتعيد موضعة الدور السوري داخل معادلة إقليمية تفضّل الضوابط القابلة للفحص على رهانات المغامرة.

 

دوافع استراتيجية 

يقوم طرح الإدارة الجديدة في دمشق على معادلة واضحة مفادها الشرعية من خلال التدويل المحسوب والانتقائي؛ فبترحيبه بقوات حفظ السلام في المنطقة المنزوعة السلاح التي أُنشئت عام 1974، يسعى النظام الجديد إلى إثبات التزامه بقواعد النظام الدولي، مراقبة الحدود، والانخراط في الإشراف المتعدد الأطراف، والتعامل مع المؤسسات الدولية. ويأتي توقيت هذه الخطوة بدقّة محسوبة؛  فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، حين أطاحت قوات ردع العدوان بقيادة "هيئة تحرير الشام" بالأسد، ظلّ الجنوب السوري في حالة سيولة أمنية. وقد برّرت إسرائيل نشر قواتها في منطقة الفصل التابعة للأمم المتحدة ؛  التي تبلغ مساحتها 155 ميلاً مربعاً؛  بذريعة الخوف من تسلل الجماعات الجهادية، وهي خطوة تراها دمشق والأمم المتحدة اختراقاً مؤقتاً وغير قانوني. أمّا دمشق، فقد أعادت صياغة المعادلة ليكون الاختراق الإسرائيلي رداً على وجود الميليشيات الإيرانية وحزب الله في عهد الأسد، لكن هذه القوى زالت الآن، والرسالة المقصودة واضحة، فسوريا الجديدة لم تعد ذراعاً لحروب طهران بالوكالة، بل دولة عربية ذات سيادة تسعى إلى التطبيع والانفتاح.

ويشكّل هذا التحول الخطابي حجر الأساس في السياسة الخارجية الناشئة للرئيس أحمد الشرع، إذ يسعى لتحقيق ثلاثة أهداف مترابطة في آنٍ واحد.. أولاً، طمأنة إسرائيل بأن مرحلة التهديدات العابرة للحدود من الجنوب السوري قد انتهت. فبإبرازه انسحاب الميليشيات الإيرانية وحزب الله، يحاول الشرع إيصال رسالة بأن قيادته الجديدة قادرة على ضبط الأراضي السورية ومنع أي جهة معادية أو غير حكومية من استخدام أراضيها ضد إسرائيل، في مسعى لتبديل الصورة النمطية لسوريا من مصدر تهديد إلى جار مستقر محتمل؛ وهذا ما يحصل في الجنوب عبر قيام وزارة الداخلية بضبط مستودعات وخلايا "إرهابية مرتبطة بالخارج" وسحب سلاحها وتقديمها للعدالة. وثانياً، طمأنة الشركاء العرب، ولا سيما دول الخليج العربي والأردن، بأن حكّام سوريا الجدد قوميون براغماتيون  (وإن كان للكلمة معنى قد لا يرغب به الرئيس الشرع بحد ذاته) لا جهاديون عابرون للحدود. فالشرع يدرك أن إعادة الاندماج الإقليمي تتطلب إقناع العواصم العربية بأن جذور حركته الإسلامية لن تتحوّل إلى مشروع أيديولوجي عابر للحدود؛ وبتقديم حكومته ككيان وطني يسعى إلى السيادة والاستقرار، ينسجم مع التوجه العربي الرامي لإعادة سوريا إلى الحضن العربي وتقليص النفوذ الإيراني؛ وثالثاً، طمأنة الأمم المتحدة والدول الغربية بأن دمشق باتت منفتحة على الرقابة الدولية. فدعوة قوات حفظ السلام والاعتراف بالحاجة إلى الإشراف الأممي يشكّلان إشارة إلى استعداد النظام الجديد للعمل ضمن الأعراف الدولية؛  على عكس عهد الأسد الذي اتّسم بالعنجهية وبالمواجهة مع المؤسسات الدولية. وهذه البادرة تهدف إلى تهيئة الشروط الدبلوماسية لاستعادة المساعدات، وجذب الاستثمار، وتمويل إعادة الإعمار، ورفع العقوبات الاقتصادية في المستقبل. وبذلك، يسعى الشرع إلى إعادة تعريف صورة سوريا من دولة منبوذة غارقة في حروب الوكالة إلى دولة ذات سيادة تسعى إلى تعايش منظم مع جيرانها والمجتمع الدولي.

تدفع رغبةُ السلطة الجديدة في تحويل مكاسب الميدان إلى شرعية دولية عبر إشراف أممي قابل للتحقق، الحاجةَ إلى قوات حفظ سلام في سوريا، وخفضُ التوتر على حدود سوريا الجنوبية الغربية مع الجولان السوري المحتل عبر قوات فض اشتباك حيادية تردع الاحتكاك وتُضعف مبررات الوجود الأحادي، وفتحُ مسارات للتمويل ورفع العقوبات ضمن أطر مشابهة لقوات فض الاشتباك التقليدية في القنيطرة والجولان.  نجاح المهمة مشروطٌ بقبولٍ متبادل وقواعد اشتباك واضحة وتحققٍ مستقل وتركيبةٍ محايدة، مع حمايةٍ لوجستية وقانونية وتوافقٍ في مجلس الأمن. زمنياً، يُرجَّح أن يكون 2025 عاماً للتصميم الدبلوماسي ومسوح المواقع وبعثات صغيرة، على أن يبدأ التوسّع الواقعي، إن استقر الجنوب في أواخر 2026–2027، وهو مخطط زمني متعارف عليه كمدة عالمية لنشر قوات عازلة.

على الأرض، تبدو حظوظ روسيا هي الأقوى في إدارة ملف الجنوب السوري (بحكم التقارب الأخير و الزيارات المكثفة بين موسكو ودمشق) من ناحية إعادة تثبيت 9 نقاط  للشرطة العسكرية الروسية في الجنوب السوري؛ واستمراراً لما كان قائماً قبل 2011؛  تبدو الهند وبنغلادش ونيبال (لوجستيات/هندسة/شرطة)، والنمسا وفنلندا (مراقبةٍ حيادية)، وأوروغواي وغانا (حمايةٍ خفيفة/شرطة) الأكثر ترجيحاً لأخذ فرص وجود على خطوط فض الاشتباك في المنطقة الجنوبية، مع أدوارٍ متخصصة لليابان والسويد والنرويج وألمانيا وهولندا، وأدوار ارتباط وتدريب للأردن ومصر. ويتكوّن المزيج الأولي من مراقبين غير مسلحين، وهندسة ولوجستيات، ووحدات حماية خفيفة، وشرطة دولية، ومقر قيادة متوازن لتعزيز الحياد. استراتيجياً، المطلوب موازنة السيادة مع الطمأنة، وإدارة المخرّبين بسرعة وشفافية، وإرسال إشارةٍ إقليمية بأن نموذجاً وظيفياً ممكنٌ للحدود المتنازع عليها. والمرجّح هو كما نلاحظ جمود مُدار بخطوات تخفيف تصعيد رمزية وانتشارات محدودة قبل أي خفض جوهري للوجود العسكري، والاقتصار على بعض العمليات الأمنية للجيش الإسرائيلي في المنطقة القريبة من الحدود.

 

تل ابيب بين الفرصة والريبة

انتشار جيش الدفاع الإسرائيلي في منطقة الجولان يعكس عقيدة السيطرة الوقائية القائمة على البقاء ميدانياً في منطقة خطر إلى أن يثبت الطرف الآخر قدرته على ضبط أراضيه. وتبرر إسرائيل بقاءها هناك بأنه ضرورة دفاعية لمنع تسلل الجماعات المسلحة (كجماعة المقاومة الوطنية التي ظهرت قبل أسابيع). وتستشهد الحكومة الإسرائيلية باكتشاف أكثر من 3300  قطعة سلاح، بينها مضادات دروع وصواريخ في القرى الحدودية، مع أجهزة رادار بسيطة وألغام وصواعق؛ إضافة إلى الضربة الجوية بطائرة مسيّرة قرب القنيطرة في 15 كانون الثاني/يناير التي قتلت ضابطين من الإدارة العسكرية الجديدة، كدلائل على أن الجنوب السوري لا يزال منطقة مضطربة. ويؤكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن الانسحاب لن يتم إلا بعد ضمانات أمنية قابلة للتحقق، معتبراً أن تصريحات الشرع ليست تحولاً، بل اختباراً لمدى قدرته على تحويل الوعود إلى سلوك دولة منضبط. تنبع الريبة الإسرائيلية من كون إسرائيل وشركاءها الغربيين لا يثقون بأن "هيئة تحرير الشام" ؛  الحركة التي انبثقت منها الإدارة الجديدة بعد ردع العدوان؛  قد تحوّلت فعلياً من إيديولوجيا جهادية إلى حكومة وطنية منضبطة؛ وكون تجربة الأمم المتحدة في لبنان عبر قوات يونيفيل، التي سمحت لحزب الله بتعزيز نفوذه تحت مظلتها، ما يجعل إسرائيل ترى في أي بعثة جديدة خطراً لتكرار السيناريو ذاته. ولذلك، تصرّ تل أبيب على أن الأمن لا يُفوَّض، وأن الثقة لا تُمنح إلا بعد الاستقرار لا قبله.

 

الدور العربي 

لم يكن ظهور الشرع إلى جانب رئيس الوزراء القطري مصادفة دبلوماسية، بل رسالة مدروسة بعناية تشير إلى عودة العرب إلى الملف السوري وسعي الدوحة لتكون وسيطاً وضامناً في المرحلة الانتقالية. لقد بنت قطر سياستها الخارجية على المرونة الاستراتيجية، فتمكنت من التواصل مع أطراف متناقضة؛ من الحلفاء الغربيين إلى الحركات الإسلامية إلى المعسكر الشرقي؛  وجعلت من الحوار أداتها الأساسية في إدارة الأزمات. وباستقبالها القيادة السورية الجديدة، أرسلت الدوحة إشارة مفادها أن المنظومة العربية مستعدة لاستعادة سوريا من الهيمنة الإيرانية وإعادة دمجها ضمن الإطار العربي السني المعتدل. ومن خلال دعمها لمبادرة الشرع بشأن قوات حفظ السلام، تسعى قطر لتحقيق أهداف متعدّدة أهمها أن تُظهر نفسها كوسيط مسؤول قادر على تثبيت الاستقرار بعد عقد من الانقسام العربي حول سوريا، وأن تهيئ أرضية اقتصادية لإعادة الإعمار بتمويل عربي يخضع للرقابة الدولية، وأن تقدم لإسرائيل ضمانة غير مباشرة بأن مستقبل الجولان سيتحدد عبر الدبلوماسية العربية لا الميليشيات والعمل العسكري.  فعلياً،  تراهن قطر على أن تحول سوريا الهش يمكن أن يتحوّل إلى عائد دبلوماسي للمنطقة بأسرها، فتتحول ساحة الحرب السابقة إلى منبر لإعادة الاصطفاف الإقليمي بقيادة عربية.

 

معضلة الأمم المتحدة 

 فكرة نشر بعثة جديدة لحفظ السلام على الحدود السورية -الإسرائيلية تواجه عوائق قانونية وسياسية ولوجستية ضخمة؛ فقوة مراقبة فضّ الاشتباك (UNDOF) التي أنشئت عام 1974 لمراقبة وقف إطلاق النار بعد حرب أكتوبر، ما تزال قائمة اسماً وشكلاً فقط، لكنها فقدت معظم فعاليتها خلال الحرب السورية. وإحياؤها يتطلب توافقاً في مجلس الأمن، وهو أمر غير مضمون في ظل الانقسام الدولي.  فعلياً، لن توافق الولايات المتحدة على نشر هكذا قوات إلا بعد إثبات أن الإدارة الجديدة لم تعد إيديولوجية سنية ولم تعد تتعامل بعقلية الفصائل وانتقلت للعمل بعقلية الدولة، بينما ستسعى روسيا لضمان مصالحها العسكرية في اللاذقية وطرطوس. حتى لو تحقق الإجماع السياسي، تبقى مشكلة المساهمات العسكرية قائمة؛ على اعتبار أن الحماس العالمي لمهام خطرة كهذه تراجع كثيراً. كما أن قواعد الاشتباك يجب أن تكون دقيقة ؛  قوية بما يكفي لردع التهديدات، ولكن محدودة لتجنّب التصعيد. لا يبدو أن الأمم المتحدة راغبة او عازمة على تكرار شلل اليونيفيل في لبنان، ولا تريد أن تتحول قواتها إلى طرف في الصراع. وهكذا تجد الأمم المتحدة نفسها أمام معضلة تصميم بعثة مرئية بما يكفي لتأكيد الشرعية الدولية، ولكن غير استفزازية كي لا تصبح هدفاً. 

 

الصورة بين الداخل الخارج

التحدي الأكبر أمام الإدارة الجديدة في دمشق لا يكمن في إسرائيل أو الأمم المتحدة، بل في إعادة تعريف هوية تحالفه الحاكم بحد ذاته، والإدارة العليا السورية من جهة أخرى؛ فمسار تحول هيئة تحرير الشام من حركة مسلحة إسلامية إلى سلطة شرعية ما يزال غير مؤكد. ولكسب المصداقية، على الإدارة الجديدة نزع سلاح الميليشيات المحلية، وفرض احتكار الدولة لاستخدام القوة، ومنع عودة الخلايا الجهادية أو شبكات التهريب، كما يجب عليها بناء جيش وطني موحّد يعمل تحت إمرة الدولة لا الولاءات الطائفية أو الخارجية. ورغم أن الخطابات الحالية حاولت تحميل تحالف الأسد مع إيران وحزب الله مسؤولية الفوضى السابقة، إلا أن تحقيق الاستقرار يتطلب أكثر من الخطاب؛  بل مؤسسات منضبطة لم تعرفها سوريا منذ عام 2011، يتم العمل من خلالها علة مواضيع العدالة الانتقالية، والمصالحات، واحتكار العنف ،والتسليح.

 

انعكاسات اقليمية

يتعامل الطرف الإسرائيلي مع الجولان ببراغماتية أمنية تُبقيه داخل منطقة الفصل وتربط أي انسحابٍ بتفكيكٍ موثوق لقدرات الفصائل، وبمراقبةٍ أممية فعّالة وإسنادٍ عربي مستمر، بينما يكتفي الأردن ومصر بدعمٍ غير مباشر تفادياً لأعباء جبهة إضافية. على المستوى الأوسع، صار الجولان مختبراً لتوازنات ما بعد الحرب، فروسيا تُحافظ على نفوذها الساحلي وحقّها التعطيلي، وإيران تحاول صون شبكاتها وتقاوم أي تفويض أممي يقيّدها، في حين ترى واشنطن والاتحاد الأوروبي نافذةً لاختبار سوريا جديدة يمكن التعويل عليها، وتقرأه العواصم الخليجية كفرصة لإعادة دمشق إلى المدار العربي. زمنياً، تقف المرحلة بين ثلاثة سيناريوهات (تقدّم منضبط، جمود، انتكاس) مع رجحان الجمود المُدار حتى ما قبل 2026. في الجوهر، تُجسّد الدعوة إلى حفظ السلام محاولة تحويل الفوضى الميليشياوية إلى مؤسسية قابلة للتحقق؛ اعترافٌ مشروط بقدرة الدولة على الضبط، في بيئةٍ أممية محدودة الأدوات وخياراتٍ عربية تُوازن بين الطموح والكلفة

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث