منذ إنشائها في العام 1983، ارتبط اسم القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) بصور العمليات العسكرية المباشرة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، من حرب الخليج إلى غزو العراق وأفغانستان، وصولاً إلى المعارك ضد تنظيمي القاعدة و"داعش". غير أن المشهد الإقليمي بعد توقيع اتفاق غزة في إطار خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام الشامل، يكشف عن انتقال نوعي في وظيفة هذه القيادة: من ذراع قتالية تتحرك في مسارح الحروب التقليدية، إلى مظلة استراتيجية تعمل بوصفها ضامناً للأمن وإطاراً للإعمار، حيث تتداخل مهامها العسكرية مع حسابات السياسة، وتتقاطع مع رهانات الاقتصاد وإعادة البناء.
هذا التحول لا يقتصر على فلسطين وما يرتبط بها من ترتيبات "مجلس السلام"؛ بل يمتد إلى سوريا حيث تلعب "سنتكوم" دور الوسيط بين حكومة الشرع وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وإلى لبنان حيث تواكب ملف سلاح "حزب الله" واستثمارات الغاز البحري، في حين باتت مصر، بعد اتفاق غزة، شريكاً مباشراً في رسم خطوط الدور الأميركي عبر بوابة سيناء والعريش. وهكذا، تجد القيادة المركزية نفسها اليوم في قلب معادلة إقليمية جديدة، تمزج بين الردع العسكري، وإدارة التوازنات السياسية، وصياغة بيئة تسمح للإعمار الدولي بأن ينطلق.
من الحرب إلى الإعمار
لم يكن اتفاق غزة، الذي تضمن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، مجرد محطة لالتقاط الأنفاس بعد حرب مدمرة استمرت عامين؛ بل تحول إلى بداية مرحلة انتقالية جديدة تعيد رسم أدوار القوى الفاعلة في المنطقة. ففي قلب هذه المرحلة تقف الولايات المتحدة، عبر ما يسمى بـ"مجلس السلام"، برئاسة الرئيس الأميركي بوصفه إطاراً إشرافياً مؤقتاً يتولى توجيه مسار ما بعد الحرب، في حين أوكلت المهمة التنفيذية الميدانية إلى القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم).
وستنشر سنتكوم قرابة 200 عسكري لتأسيس مركز التنسيق المدني–العسكري "CMCC" المتمركز خارج غزة، وإدارته، ليكون بمنزلة غرفة عمليات مشتركة تضم ضباط ارتباط من مصر وقطر وتركيا وربما الإمارات، في صيغة غير مسبوقة للتعاون الأمني–الإقليمي. وتتوزع المهام على مراقبة الهدنة ومنع انهيارها، وإدارة قنوات فضّ الاشتباك، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية ومشاريع الإعمار، مع رفع تقارير دورية إلى مجلس السلام ليبني عليها قراراته السياسية والمالية.
وإلى جانب واشنطن، دخل الاتحاد الأوروبي على الخط عبر وثيقة صادرة عن خدمة العمل الخارجي الأوروبي "EEAS"، طالَب فيها بعضوية داخل المجلس لترسيخ نفوذه وتأمين موطئ قدم في آلية الإشراف. وتربط بروكسل هذا الدور بقدرتها على ضخ تمويلات معتبرة تصل إلى 1.6 مليار يورو مخصّصة للفلسطينيين بين 2025 و2027، وهو ما يجعل سنتكوم حلقة الوصل الضرورية بين الضمانات الأمنية الأميركية والتمويل الأوروبي، في معادلة معقدة تسعى إلى تحويل غزة من ساحة مواجهة إلى مختبر إقليمي للإعمار تحت مظلة أميركية–دولية.
سوريا… سنتكوم بوصفها وسيطاً وضامناً
في سوريا، انتقل حضور سنتكوم من ملاحقة فلول "داعش" إلى مستوى أكثر تعقيداً، حيث أصبحت الوسيط والضامن السياسي– العسكري بين حكومة الرئيس أحمد الشرع و"قسد". وجاء هذا التحول بعد سقوط المخلوع بشار الأسد، ثم توقيع اتفاق 10 آذار/ مارس 2025، الذي نصّ على دمج الوحدات الكردية ضمن المؤسسات المدنية والعسكرية السورية، لتجنيب البلاد سيناريو الانقسام أو استمرار المواجهة المسلحة.
منذ ذلك التاريخ، برز الدور الأميركي على نحوٍ أوضح، حيث حضر قائد "سنتكوم" الأدميرال براد كوبر، اجتماعات مشتركة في دمشق والقامشلي لدعم تنفيذ بنود الاتفاق، مقدّماً ما يشبه شهادة ضمان عسكرية للطرفين. وتتوزع مهام القيادة المركزية في هذا الملف على توفير الضمانات الأمنية للطرفين، ومراقبة عملية الدمج التدريجي للوحدات الكردية في الجيش الجديد، ومنع عودة "داعش" في دير الزور والحسكة، وضبط التوازن مع روسيا وإيران واحتواء الهواجس التركية.
وبذلك، تحولت "سنتكوم" إلى فاعل استراتيجي يتجاوز طبيعتها العسكرية التقليدية؛ إذ لم تعد مجرد قوة ميدانية، بل أصبحت طرفاً يضمن أن مرحلة ما بعد الأسد لن تنزلق نحو صدام داخلي أو انفصال كردي، وأن الترتيبات الانتقالية ستتم تحت سقف دولي منظم، تتقاطع فيه الاعتبارات الأمنية والسياسية والجيواستراتيجية.
لبنان… معادلة السلاح وثروة الغاز
وفي لبنان، يتخذ دور "سنتكوم" طابعاً غير مباشر، لكنه شديد الحساسية. فبالرغم من غياب قاعدة عسكرية أميركية دائمة على الأراضي اللبنانية، فإن حضورها يُترجم في تدريب الجيش اللبناني وتسليحه، وفي توفير الدعم اللوجستي والفني له، في محاولة لترسيخ قاعدة "احتكار السلاح" من قبل الدولة في مواجهة تفوق "حزب الله" العسكري. وبذلك، تغدو القيادة المركزية جزءاً من معركة أوسع تتجاوز حدود لبنان لتلامس جوهر التوازنات الإقليمية بين واشنطن وطهران.
وتتركز أدوار سنتكوم على مسارين رئيسين، أمني–عسكري عبر برامج تدريب مستمرة للجيش اللبناني، وتزويده بمعدات مراقبة الحدود وتفكيك الذخائر، بما يمكنه من أداء دور أكثر استقلالية وضبط المعابر مع سوريا، واستراتيجي– طاقوي عبر توفير مظلة ردع لمشاريع الغاز البحرية في شرق المتوسط، حيث يشكل الأسطول الخامس الأميركي عنصر طمأنة للشركات الدولية (توتال، إيني)، ويمنع تهديدات محتملة تطال منصات التنقيب والبنى التحتية.
إلى جانب ذلك، لعبت "سنتكوم" دوراً لوجستياً في إدارة الكوارث، كما حصل بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، حين ساعدت في إيصال مساعدات عاجلة عبر البحر والجو. وفي سياق إعادة الإعمار، يبقى وجودها الأمني غير المباشر شرطاً لطمأنة المانحين والمستثمرين بأن مشاريع البنية التحتية لن تكون رهينة للتقلبات الأمنية أو للمواجهة مع "حزب الله". وهكذا، تتحول "سنتكوم" في لبنان إلى ضامن صامت لا تفرض وجوداً مباشراً، لكنها تمسك بخيوط حساسة تتعلق بأمن الجيش واستقرار الحدود ومستقبل الثروة الغازية، وهذا ما يجعلها شريكاً غير معلن في أيّة معادلة لإعادة بناء الدولة وتعافي اقتصادها.
مصر شريك مباشر بعد غزة
بعد توقيع اتفاق غزة، ارتقت مكانة مصر من دور الوسيط الإقليمي المعتاد إلى موقع الشريك المباشر في ترتيبات الأمن والإعمار. فقد أصبحت القاهرة طرفاً فاعلاً داخل مجلس السلام عبر ضباط ارتباط في مركز التنسيق المدني–العسكري (CMCC)، وهو ما يمنحها حضوراً مؤثراً في صياغة آليات وقف النار، ومتابعة تدفق المساعدات.
هذا التحول يعكس إدراك واشنطن أن أيّة ترتيبات لغزة لا يمكن أن تستقر من دون مصر، بوصفها الجار الجغرافي والبوابة الوحيدة التي تربط القطاع بالعالم العربي. وبالتوازي، برزت تسريبات حول احتمال إقامة مركز عمليات أو محطة لوجستية في العريش بشمال سيناء، لتكون بمنزلة قاعدة خلفية لدعم المراقبة وتسهيل دخول المساعدات ومعدات الإعمار. وبالرغم من أن القاهرة لم تؤكد هذه الطروحات رسمياً، فإن مجرد تداولها يكشف عن تزايد الثقل المصري في معادلة ما بعد الحرب.
وعملياً، قد يشمل التعاون المصري–الأميركي، تنسيق أمني ولوجستي لتأمين معبر رفح وتسهيل مرور المساعدات، وتبادل معلومات بين الجيش المصري وسنتكوم لمراقبة الحدود وضبط أيّة تهديدات محتملة، واستخدام مطار العريش نقطةَ استقبالٍ وإعادة توزيع للمساعدات الدولية.
وبذلك، تتحول سيناء من هامش أمني ارتبط بمكافحة الإرهاب إلى مركز ثقل إقليمي في مشروع إعادة إعمار غزة، مع ما يعنيه ذلك من إعادة رسم العلاقة بين واشنطن والقاهرة على أسس أكثر عمقاً من الوساطة الدبلوماسية التقليدية.
نحو دور متزايد إقليمياً
ولم تعد "سنتكوم" مجرد قوة قتالية مكرسة لمواجهة الإرهاب؛ بل تحولت تدريجياً إلى ضامن إقليمي للسلام والأمن، تتجاوز مهامها الطابع العسكري التقليدي. فهي اليوم معنية بإدارة وقف إطلاق النار في غزة والإشراف على ترتيبات الإعمار، وبمراقبة خطوط الطاقة في شرق المتوسط، فضلاً عن دورها في سوريا ولبنان لمنع الفوضى وضبط التوازنات.
ويبقى السؤال: هل تستطيع القيادة المركزية جمع المتضادّين في غرفة عمليات واحدة، من إسرائيل إلى مصر وتركيا والأردن وقطر؟ تقنياً وعسكرياً، تمتلك الأدوات اللازمة لتحقيق ذلك عبر شبكات المراقبة وتبادل المعلومات وبروتوكولات فضّ الاشتباك. لكن سياسياً، تبقى الملفات الجوهرية ـ من الدولة الفلسطينية إلى سلاح "حزب الله" مروراً بالدور الإيراني ـ رهينة مجلس السلام والصفقات الدبلوماسية التي ترعاها واشنطن وحلفاؤها.
بهذا المعنى، يتجسد صعود "سنتكوم" في صورة مركبة، قوة عسكرية تؤمّن الأرضيات المشتركة، لكنها تحتاج إلى غطاء سياسي يترجم هذا الإنجاز إلى استقرار دائم. إنها أداة ضغط وطمأنة في الوقت نفسه، تملك مفاتيح الميدان، في حين يظل نجاحها مرهوناً بقدرة الفاعلين السياسيين على تحويل المكاسب الأمنية إلى تسويات نهائية.
اليوم تجد "سنتكوم" نفسها أمام لحظة مفصلية في تاريخ حضورها بالشرق الأوسط. فبعد أن ارتبط اسمها بعمليات الردع ضد القاعدة و"داعش" فقط، أصبحت الذراع التنفيذية لمجلس السلام في غزة، والوسيط بين حكومة الشرع و"قسد" في سوريا، والضامن غير المباشر لاستقرار لبنان وثروته الغازية، والشريك الأمني المتقدم لمصر عبر بوابة سيناء والعريش. وهكذا، لم تعد مجرد أداة عسكرية تابعة للبنتاغون؛ بل تحولت إلى جسر بين الأمن والسياسة والاقتصاد، وحلقة وصل بين التمويل الأوروبي والضمانات الأميركية والتوازنات الإقليمية.
ومع ذلك، يبقى نجاح هذا الدور مرهوناً بقدرة مجلس السلام على تحويل المكاسب الأمنية إلى تسويات سياسية طويلة المدى، وباستعداد القوى المتعارضة للجلوس حول طاولة واحدة. فــَ "سنتكوم" اليوم أكثر تمدداً من أيّ وقت مضى، لكنها أيضاً أمام أكبر اختبار، إما أن تثبت قدرتها على تثبيت الأمن وتسهيل الإعمار وفتح الطريق أمام تسويات شاملة، أو تتحول إلى قوة احتواء لأزمات متجددة. وفي كل الأحوال، فإن ما بعد اتفاق غزة لن يشبه ما قبله؛ إذ يدخل الشرق الأوسط مرحلة تُدار فيها الملفات الكبرى تحت عينٍ عسكرية أميركية، بانتظار أن تحسم السياسة مصير ما تبقى من نزاعات مزمنة.
