يبدأ الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع اليوم الأربعاء، زيارة رسمية إلى العاصمة الروسية موسكو بدعوة من الكرملين، يلتقي خلالها نظيره الروسي فلاديمير بوتين وعدداً من كبار المسؤولين الروس، في خطوة تأتي بعد انطلاق مرحلة جديدة في العلاقات بين دمشق وموسكو عقب سقوط نظام بشار الأسد.
تُعدّ الزيارة الأولى من نوعها للشرع إلى موسكو منذ توليه منصبه، وتحمل وزناً سياسياً واستراتيجياً خاصاً، إذ تأتي في توقيت بالغ الحساسية تشهد فيه المنطقة تحولات متسارعة على وقع الحرب في غزة والجهود الدبلوماسية الدولية المتصلة بها، فيما تبرز الملفات السورية مجدداً كعنصر محوري في العلاقات بين البلدين.
الخلفية والسياق
كانت موسكو قد حدّدت في وقت سابق يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر الحالي موعداً لعقد القمة الروسية العربية الأولى من نوعها، غير أن الكرملين أعلن تأجيلها إلى شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، مبرّراً القرار بانشغال الأطراف العربية بسلسلة اجتماعات دولية متصلة بمساعي وقف الحرب في غزة.
ورغم هذا التأجيل، تمسّك الجانبان السوري والروسي بإبقاء قنوات التشاور مفتوحة، وعقد لقاء ثنائي مستقل على مستوى الرئاسة، في إشارة إلى خصوصية العلاقة بين الطرفين ورغبة موسكو في الحفاظ على موقعها الإستراتيجي في سوريا، بمعزل عن الأجندة العربية الأوسع.
وتكتسب زيارة الشرع بعداً إضافياً كونها تأتي بعد أيام من زيارة وفد سوري رفيع المستوى إلى موسكو ضمّ مسؤولين من وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية، في إطار اجتماعات ناقشت ملفات التعاون العسكري ومراجعة ترتيبات الوجود الروسي في الأراضي السورية.
وتشير مصادر مطّلعة إلى أن تلك الزيارة التحضيرية وضعت الأسس للمحادثات السياسية العليا، حيث حمل الوفد رسائل تتعلق بتحديث آليات التنسيق الميداني وتطوير منظومات الدفاع الجوي المنتشرة في الساحل السوري ومحيط العاصمة دمشق، إضافةً إلى بحث ترتيبات إعادة التموضع الجزئي لبعض الوحدات الروسية خلال الأشهر الماضية.
الملفات المطروحة على الطاولة
من المنتظر أن يتصدّر الملف العسكري جدول أعمال القمة السورية – الروسية، في ظل رغبة موسكو بإعادة تقييم حضورها الميداني بما يتناسب مع أولوياتها بعد الحرب الأوكرانية، مقابل سعي دمشق إلى ضمان استمرار الدعم الدفاعي من دون المساس بسيادتها على الأرض.
كما سيجري بحث مستقبل قاعدتَي حميميم وطرطوس بوصفهما محورَي الوجود الروسي في شرق المتوسط، مع احتمالية الاتفاق على توسيع التعاون في مجالات التدريب وتبادل الخبرات والاستخبارات، لا سيما في مكافحة الإرهاب وتأمين الحدود الجنوبية والبادية.
على الصعيد الاقتصادي، يتوقّع أن يبحث الجانبان سبل توسيع التعاون في مجالات الطاقة والنفط والغاز والكهرباء، إضافة إلى متابعة العقود السابقة الخاصة باستثمار المرافئ وحقول الفوسفات. وتسعى دمشق إلى الاستفادة من الخبرة الروسية في إعادة الإعمار وتطوير البنية التحتية في وقت تواجه فيه البلاد أزمة مالية حادة وتحديات في قطاعي النقل والطاقة.
في المقابل، تدرس موسكو إمكان تعزيز وجود شركاتها في السوق السورية ضمن إطار شراكات طويلة الأمد، وضمان حماية استثماراتها من التغيرات السياسية والاقتصادية المحتملة في المنطقة.
الدلالات السياسية والاستراتيجية
يحمل اللقاء بعداً سياسياً لا يقل أهمية عن الملفات الاقتصادية والعسكرية، خصوصاً في ضوء التطورات على الحدود الجنوبية السورية وفي محافظة السويداء، إلى جانب انعكاسات الحرب في غزة على الموقف السوري الرسمي.
ويرى مراقبون أن الشرع يسعى إلى طرح رؤية متوازنة تقوم على دعم حق الشعب الفلسطيني بالتوازي مع حماية المصالح الوطنية السورية، فيما تركز موسكو على تثبيت دورها كوسيط إقليمي قادر على التواصل مع مختلف الأطراف، بما يضمن استمرار نفوذها في المنطقة.
ويتضمن جدول المحادثات أيضاً بحث ملف اللاجئين السوريين وإعادة تفعيل اللجنة الروسية السورية المشتركة المعنية بمتابعة هذا الملف، في ظل رغبة موسكو في تحقيق اختراق ملموس في هذا المسار.
زيارة الشرع إلى موسكو ستكون محمّلة برسائل متعددة الاتجاهات؛ داخلية موجهة إلى السوريين لتأكيد قدرة الدولة الجديدة على استعادة علاقاتها الخارجية مع الحلفاء الدوليين الذين كانوا بالأمس القريب في خانة الخصوم إلى جانب نظام المخلوع بشار الأسد ضد الشعب السوري، وخارجية تؤكد أن موسكو لا تزال تعتبر سوريا ركيزة نفوذها في الشرق الأوسط ونقطة تموضع رئيسية لأسطولها في البحر المتوسط.
ورغم التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجه الطرفين، تُظهر هذه الزيارة استمرار التنسيق الوثيق بين دمشق وموسكو، إذ ترى دمشق في التحالف مع روسيا ضمانة لتوازنها العسكري والسياسي، بينما تعتبر موسكو الملف السوري ورقة استراتيجية لا غنى عنها في معادلات النفوذ الإقليمي.
صوت السوريين في موسكو
وعشية الزيارة، عبّر عدد من أفراد الجالية السورية في العاصمة الروسية عن آمالهم بأن تسهم المحادثات المرتقبة في تعزيز وحدة البلاد وإعادة تنظيم التمثيل الدبلوماسي السوري في الخارج.
وخلال استطلاع أجرته "المدن" مع مجموعة من أبناء الجالية، قال د. أحمد الغفرة إن "السوريين في موسكو ينظرون بارتياح إلى الزيارة، ويرون فيها فرصة لترجمة الخطاب السياسي الجديد إلى خطوات عملية تضمن وحدة الأراضي السورية وتخدم المصلحة الوطنية العليا". وأضاف أن الجالية السورية "تأمل أن تشهد المرحلة المقبلة إصلاحاً حقيقياً في أداء السفارة السورية بروسيا، التي ما زالت تُدار بعقلية النظام السابق"، معتبراً أن "تفعيل دور البعثة الدبلوماسية الجديدة سيعزز صورة الدولة السورية الحديثة أمام الجانب الروسي".
من جهته، أكد الناشط في الجالية السورية فايز مسالمة، أن زيارة الرئيس الشرع "تحمل آمالاً كبيرة" في إعادة ترميم العلاقات السورية الروسية، مشدّداً على أن هذه العلاقات يجب أن تراعي وجود جالية سورية كبيرة في روسيا، وأن تُعدّ موسكو شريكاً فاعلاً في جهود إعادة الإعمار وإصلاح ما أضرّت به سياسات نظام الأسد.
وأضاف مسالمة أن من أهم ما تنتظره الجالية هو إعادة تفعيل خطوط الطيران بين سوريا وروسيا، لكونها حاجة ملحّة لكثير من السوريين الذين انفصلوا عن بلادهم منذ سنوات، سواء لزيارة الوطن أو لاستئناف أنشطتهم الاقتصادية مع سوريا.
كما شدد عدد من المشاركين في الاستطلاع من الأطباء والأكاديميين من أبناء الجالية، على ضرورة "تغيير كامل الطاقم الدبلوماسي الحالي في موسكو" باعتبارها خطوة لازمة لإعادة تنظيم العلاقات الرسمية وفتح قنوات تواصل فاعلة بين الجالية والدولة السورية.
إذاً، بين الملفات العسكرية والاقتصادية والسياسية، تبدو زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو اختباراً عملياً لقدرة القيادة السورية الجديدة على صياغة علاقة متوازنة مع موسكو، تقوم على المصالح المشتركة لا التبعية. كما تمثل الزيارة فرصة للطرفين لتأكيد استمرارية التحالف الاستراتيجي وسط مشهد إقليمي مضطرب، ولإعادة تثبيت سوريا على خارطة التفاعلات الدولية كلاعب يسعى إلى استعادة دوره ومكانته في الشرق الأوسط.
