بعد لقاء أنقرة الأمني.. هل تعيد تركيا توجيه سياستها بسوريا؟

خاص - المدنالأربعاء 2025/10/15
مقاتلو حزب العمال الكردستاني (Getty)
تركيا تصر على قطع "قسد" لأي صلة لها بحزب العمال الكردستاني (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

يُجمع محللون مختصون في الشأن التركي، على أن السياسة التركية تتجه نحو منعطف استراتيجي جديد في علاقتها مع سوريا، بعد لقاء أمني رفيع المستوى جمع وفدين من البلدين في العاصمة التركية أنقرة. 
التحوّل ليس مجرد تقارب تكتيكي، حسب تعبيرهم، بل يعكس إعادة ترتيب جذرية للأولويات، تضع الأمن المشترك في صلب العلاقة بين عاصمتين كانتا قبل سنوات قليلة على طرفي نقيض من الصراع السوري.
اللقاء الذي جمع وزير الخارجية السورية أسعد الشيباني، ووزير الدفاع اللواء مرهف أبو قصرة، ورئيس جهاز الاستخبارات حسين السلامة، بنظرائهم الأتراك هاكان فيدان ويشار غولر وإبراهيم كالن، قبل أيام، لم يكن شكليًا، إذ تمحورت المباحثات، وفق وكالتي "سانا" و"الأناضول"، حول مكافحة الإرهاب، ضبط الحدود، التدريب العسكري المشترك، و"الاستقرار الإقليمي".
لكن وراء هذه المصطلحات الرسمية، تدور مفاوضات دقيقة حول ملفين يُعدّان حاسمين لمستقبل سوريا وأمن تركيا على حد سواء: قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والجنوب السوري.
لم تكن العلاقة بين تركيا وسوريا قبل سنوات سوى ساحة صراع مفتوح، إذ دعمت تركيا فصائل المعارضة، وتمركزت في مناطق حدودية، واعتبرت نظام الأسد البائد تهديدًا مباشرًا. 
أما اليوم، فباتت تركيا تعلن بصراحة أن "أمن سوريا لا ينفصل عن أمن تركيا"، في إشارة واضحة إلى أن التفاهمات الحالية ليست مناورة مؤقتة، بل ضرورة استراتيجية فُرضت بفعل تحوّلات ميدانية وسياسية عميقة.
وكان ملف "قسد" في صلب المباحثات، فالجانب التركي يصرّ على أن تُدمج "قسد" بالكامل في الجيش السوري، وتُسلّم سلاحها، وتقطع أي صلة لها بحزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي تصنفه أنقرة منظمة إرهابية. 
أما حكومة دمشق، فتسعى إلى الحفاظ على توازن دقيق: تجنّب مواجهة عسكرية مع أنقرة من جهة، وضمان عدم فقدان نفوذها في مناطق شرق الفرات من جهة أخرى.


لقاء الشرع- عبدي
وفي هذا السياق، يكتسب اللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بقائد "قسد" مظلوم عبدي، بحضور مبعوثين أميركيين، أهمية بالغة، خصوصاً أن هذا اللقاء، الذي لم يكن وارداً قبل أشهر، وضع ما يشبه "خارطة طريق أولية" لإعادة دمج "قسد" في الدولة السورية. 
ومن أبرز ما تسرّب عن التفاهمات المبدئية، استعداد "قسد" لتسليم إيرادات النفط من حقول دير الزور إلى الحكومة المركزية، مقابل الاحتفاظ بنسبة مخصصة لتغطية احتياجات السوق المحلي.
رغم أن هذه الخطوة قد تبدو تقنية، إلا أنها تحمل دلالة سياسية كبيرة: فهي تعني أن "قسد" بدأت تسلّم بسيادة الدولة السورية، ولو بشكل تدريجي، لكن أنقرة التي تراقب كل تحرك بدقة، لا ترى في هذا التقارب سوى اختبار أولي، فالمطلب التركي الأهم يبقى واحداً: القضاء على أي وجود لعناصر حزب العمال الكردستاني داخل صفوف "قسد"، أو في مناطق سيطرتها.
وفي هذا الصدد، قال عمر أوزكيزيلجك، باحث ومحلل مستقل للسياسة الخارجية والأمن في أنقرة، في تصريحات خاصة لـ"المدن": " يجب أن نفهم النقطة التالية: ترى تركيا أن أمن سوريا جزء من أمنها هي، وفي الواقع فإن أمن سوريا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأمن تركيا، ولذلك، فإن تركيا مستعدة لمساعدة سوريا على تحقيق الاستقرار والحفاظ على وحدة أراضيها، وكذلك على تطوير قدراتها الأمنية".
وأضاف: "وهذا يتماشى أيضاً مع السياسة الإقليمية التركية، فتركيا تسعى إلى تعزيز مفهوم الدولة والحكومات المركزية، وتؤمن بأنه من خلال الحفاظ على وحدة الأراضي وتمكين الدولة في الشرق الأوسط يمكن حل معظم النزاعات، وأن الفاعلين المسلحين من غير الدول سيتراجعون إلى الخلف وسيلعبون دوراً أقل تدميراً".
وتابع: "كما أن العلاقات بين الدول تكون أكثر استدامة وكفاءة. ومن هذا المنطلق، من المرجح أن تواصل تركيا تقديم التدريب العسكري والمعدات العسكرية للجيش السوري".
واستطرد: "مما فهمته أن الجانبين ناقشا في هذا الاجتماع خطوات عملية وخارطة طريق ملموسة لتوسيع نطاق التعاون الأمني بين تركيا وسوريا، كما ناقشا نهجاً مشتركاً تركيّاً سوريّاً في مجال الأمن، تقوم بموجبه تركيا بمساعدة سوريا على توسيع قدراتها العسكرية".
إلى جانب الملف الكردي، يبرز ملف الجنوب السوري، خصوصاً مناطق السويداء ودرعا والقنيطرة، كأحد المحاور الأساسية في التفاهمات التركية السورية الناشئة. ففي الأسابيع الأخيرة، شهدت هذه المناطق اضطرابات أمنية واحتجاجات محلية، استغلتها إسرائيل، وفق تحليلات محلية، لتعزيز نفوذها تحت ذريعة "حماية الأقليات"، خصوصًا الدروز.
ويشير المراقبون إلى أن التحرك التركي لا يقتصر على الشمال، بل يمتد ليشمل الجنوب أيضاً، عبر تنسيق مباشر مع دمشق لسدّ أي فراغ أمني قد تستغله إسرائيل،  وهناك ترجيحات بأن "إغلاق ملف الجنوب قد يسبق حسم ملف الجزيرة السورية"، تمهيدًا لمرحلة جديدة من الاستقرار الأمني الشامل.
وما يزيد من أهمية هذه التطورات هو الحديث المتكرر عن احتمال ولادة اتفاقية أمنية جديدة بين أنقرة ودمشق، قد تتجاوز في نطاقها وعمقها اتفاقية أضنة الموقعة عام 1998، والتي سمحت لتركيا بملاحقة "الإرهابيين" داخل الأراضي السورية. 
وتشير تقارير إلى أن أنقرة تدرس إنشاء قواعد عسكرية مشتركة داخل العمق السوري، على بعد 30 إلى 40 كيلومترًا من الحدود، في حال تم التوصل إلى تفاهم نهائي مع دمشق.
لكن المحللين يحذّرون من تضخيم الصورة، فهذه الشراكة، كما يصفها الكثيرون، "شراكة ضرورة لا ودّ"، فتركيا تريد تأمين حدودها ومنع قيام كيان كردي مستقل، وسوريا تريد استعادة سيادتها من دون الدخول في مواجهة عسكرية جديدة، والنتيجة ستكون تعاون أمني واقعي، قد يُفضي إلى ترتيبات عسكرية مشتركة، لكنه لا يعني بالضرورة تقارباً سياسياً أو أيديولوجياً.


خياران أمام دمشق
وفي ظل هذا الواقع، يرى المراقبون أن دمشق تقف أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تمضي في دمج "قسد" تدريجياً ضمن الجيش السوري، مع ضمانات تركية ضمنية بعدم وجود أي عناصر أجنبية أو مرتبطة بـ PKK في صفوفها، أو أن تواجه تحركاً عسكرياً مشتركاً ينهي وجود "قسد" ككيان مستقل.
أما أنقرة، فلن تتردد في اللجوء إلى الخيار العسكري إذا فشلت الحلول السياسية، خصوصاً إذا ظلّت عناصر PKK ناشطة داخل الأراضي السورية.
وقال الباحث والمحلل السياسي طه عودة أوغلو، في تصريح خاص لـ "المدن": "نحن أمام مرحلة جديدة  في العلاقات التركية السورية عنوانها الأبرز هذه المرة (التعاون الأمني) خصوصاً بعد التصريحات التركية الأخيرة والتي جاءت على لسان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، والتي قال فيها إن أمن سوريا من أمن تركيا، وهذه التصريحات  عكست تحولات استراتيجية في الموقف التركي من الملفات الامنية الشائكة في سوريا خصوصًا موضوع قسد وضبط الحدود".
وتابع: "وبعد الزيارة يبدو أن قسد أمام اختبار وجودي في ظل تصاعد التهديدات التركية التي تطالبها بضرورة الاندماج في الجيش السوري، وهذه التطورات تعكس الدوافع الامنية والسياسية التركية من الوضع الأمني في سوريا، خصوصاً مع سعي أنقرة لحماية حدودها من تهديدات حزب العمال الكردستاني، ومن ناحية أخرى، تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي السوري".
ووسط كل ذلك، تُشير التطورات الأخيرة إلى أن التقارب التركي السوري يتخذ طابعاً أمنيّاً عمليّاً، يركّز على ملفات محددة مثل مكافحة الإرهاب، ضبط الحدود، ودمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الهيكل العسكري الرسمي. 
ورغم غياب أي تقارب سياسي أو أيديولوجي، فإن المصالح المشتركة في منع الفراغ الأمني واحتواء التهديدات العابرة للحدود تدفع الطرفين نحو تفاهمات تكتيكية قد تتطوّر إلى ترتيبات أمنية مستدامة، شرط التزام الجانب السوري بضمانات تركية صارمة، خصوصًا فيما يتعلق بحزب العمال الكردستاني.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث