تذكرني احتفالية توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، بمسرحية "أنا وهو وهي"، للفنان الراحل فؤاد المهندس والفنانة الراحلة شويكار، فالمائدة عامرة بالصحون المذهبة الفاخرة، وكؤوس الكريستال البازخة، وأغطية الصحون المرصعة بالزخارف والألوان، لكن فؤاد المهندس يرفع أغطية الصحون واحداً إثر الآخر فلا يجد شيئاً، إلى أن يرفع الغطاء المذهب الفاخر عن قرص طعمية يفترش صحناً فريداً، فيصرخ بوجه خادمه: كل هذه الصحون وأطقم الفضيات والملاعق وسكاكين السفرة، من أجل "طعمياية واحدة بس... طيب خليهم إثنين"!!
حجم التجمع الدولي في شرم الشيخ، والمستوى الرفيع للحضور فيه، كان يفتح شهية التوقعات، فمستوى الحضور، ملوك ورؤساء وأمراء ورؤساء حكومات ووزراء، يرفع مستوى التطلعات عند درجة قد يتغير معها العالم، أو الإقليم، أو تتبدل خرائط القوة والنفوذ عنده.
عناوين القمة مفتوحة النهايات، بشكل يسمح بادعاء الإنجاز عند أي درجة، فوقف إطلاق النار قد يُعتبر إنجازاً، والهدنة ممتدة أو موقوتة قد تُعتبر إنجازاً، وتوفير مواد إغاثة مع تحسين نوعية الخيام وتزويدها بالمياه والكهرباء قد تُعتبر إنجازاً.. باختصار؛ فإن حد التردي الذي آلت إليه أحوال الناس في غزة، تجعل مجرد التنفس وشرب المياه والخروج إلى بيت الخلاء إنجازات يضيفها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى حروبه الثمانية التي كادت تعصف بالعالم، لولا أنه أوقفها بإشارة من يده!
بمنطق السياسة، وبمنطق الحساب، فقد بلغت الأوضاع في غزة حداً من السقوط الأخلاقي والسياسي والاستراتيجي، لا سقوط بعده، وبات التوقف عن مزيد من التدهور حتمياً، حتى وإن أصر البعض على استمرار الحرب.
عنوان القمة جاء واقعياً ومنسجماً مع ظروف انعقادها، فهي "قمة إنهاء الحرب في غزة" وليست قمة استحضار السلام إلى الشرق الأوسط، فالسلام لا يزال بعيداً، والشرق الأوسط لا يزال بحاجة إلى بطاقة هوية جديدة، يتقرر بموجبها طبيعة النظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد، ومن هو سيده أو سادته الجدد، وما هي معايير السيادة في الإقليم، للأقوياء أم للأثرياء؟! للقوى النووية أم للقوى التقليدية؟! لمن يملكون التاريخ أم لمن يعيشونه حاضراً أو يصنعون منه مستقبلاً؟!
ما تحقق من مراحل إنهاء الحرب على غزة، حتى ساعة كتابة هذه السطور، هو فقط وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح الرهائن الأحياء، وإعادة جثامين بعض الأموات.. فهل يستكمل الأطراف باقي مراحل خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة؟!
في تقديري، فإن ما أمكن تحقيقه حتى الآن، أكبر من قدرة الواقع على هضمه، أو استيعاب مقتضياته، أو الإقرار بموجباته، وأن الانتقال إلى الطور الثاني، وفيه نزع سلاح حماس، قد يستدعي صراعاً لم يستعدّ صناع السلام في شرم الشيخ لاستحقاقاته، بينما استعدت إسرائيل بخطط التفجير الذاتي لغزة، واستعدّت له حماس بخطط حرب أهلية يحصل أطرافها على وقود مجاني من إسرائيل، وربما من إيران أيضاً.
الجائزة الكبرى في حفل التوقيع الأسطوري بشرم الشيخ، انتزعها مبكراً رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي لم يشارك في قمة شرم الشيخ، بدعوى انشغاله بالأعياد.
فهو قد انتزع اعترافاً من ترامب بضم مرتفعات الجولان السورية إلى اسرائيل، وهو اعتراف قاومه رؤساء الولايات المتحدة منذ دونالد ريغان وجورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، وصولاً إلى ترامب "الأول" الذي أعلن اعترافه بضم مرتفعات الجولان السورية المحتلة إلى إسرائيل.
وبدا لاحقاً أن نتنياهو، الذي نال دفعة دعم قوية من ترامب أمام الكنيست، استطاع دغدغة مشاعر ترامب بإغداق آيات المديح له، وبإسباغ سمات النبوة اليهودية على أكثر زعماء أميركا دعماً لا متناهياً لإسرائيل.
ثاني أكثر الرابحين من قمة إنهاء حرب غزة، كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي أغدق عليه ترامب آيات الثناء والمديح، فالرجل قد برهن منذ 7 تشرين الأول/اكتوبر 2023، على أنه بين أحسن من قرأوا كف الأزمة، واستطلعوا مستقبلها، بمحطاته، وتفاعلاته، وهو أيضاً قد رسم خريطة طريق للتعامل مع الأزمة، تمكن خلالها من إجهاض خطط كل من نتنياهو وترامب لترحيل فلسطينيي غزة إلى سيناء أوعبرها إلى محطات استقبال نهائية أو مؤقته خارج مصر، بل إنه وضع شرطاً لتلبية دعوة ترامب له لزيارة البيت الأبيض، هو أن لا يكون الترحيل -قسرياً أو طوعياً- على جدول أعمال اللقاء، وامتنع لهذا السبب عن زيارة البيت الأبيض مرتين، بل ورفض مطلباً رئاسياً أميركيا بإعفاء السفن الحربية الأميركية من رسوم العبور في قناة السويس.
الخطوط الحمراء التي وضعتها مصر لحرب غزة، فرضت حال استنفار مؤلم ومكلف لها، لكنها ألزمت اسرائيل بتوخي الحذر إزاءها، وأتاحت حضوراً مصرياً مؤثراً، في بحث مستقبل الشرق الأوسط الجديد، الذي بدا في بعض الأوقات، وكأنه شرق أوسط لا يضم العرب، ولا يعترف بحضورهم فيه، بعدما هيمنت إسرائيل وإيران وتركيا، ثم باكستان التي جاءت من بعيد لتشارك المنطقة قضاياها، وتلقي بأقلامها في شأن مستقبلها.
بدا خلال التحضير للقمة، حرص ترامب على أن يكون صانع الملوك، وموزع الأدوار، وكذلك فعل بمجريات اللقاء، فراح يمدح هذا، ويقرظ ذاك، ويسأل أين فلان؟! لماذا لم نسمع صوته؟!
"قمة إنهاء الحرب في غزة"، عنوان يبدو متواضعاً إزاء ثقل الحضور من قادة العالم، لكن تحقيقه قد يتطلب ما يتجاوز قدرات أهل القمة جميعهم، الذين غادروا مقام القمة تغمرهم مشاعر القناعة والرضا، لكن لسان حال أهل القمة، وقد استفاقوا على حقائق الأزمة وعلى الفرص الحقيقية للحل، يسدل الستار بمشهد أخير، يردد خلاله أهل القمة، أغنية فؤاد المهندس في نفس المسرحية: "رايح أجيب الديب من ديله...بس على الله يكون له ديل).
تمنوا معي أن يكمل ترامب ما جاء إلى المنطقة من أجله، وأن يعثر على ديل الديب الذي أضاعه مراراً.
