سباق الغواصات في شرق آسيا.. صراع صامت تحت الأمواج

شفيق طاهرالاثنين 2025/10/13
كوريا الشمالية غواصة
Getty
حجم الخط
مشاركة عبر

بينما تتركز الأنظار عادة على التوترات فوق سطح الأرض، فإن منافسة أكثر خطورة تتشكل بهدوء في أعماق البحار شرق آسيا. من غواصات كوريا الشمالية ذات الطابع الرمزي النووي، إلى أسطول كوريا الجنوبية التقليدي المسلح بالصواريخ الباليستية، مروراً بتصاميم اليابان الصامتة والمتقدمة تكنولوجيا، وصولاً إلى تحديث الصين لقواتها النووية البحرية، يضاف إلى كل ذلك إدخال الغواصات النووية الى أستراليا عبر اتفاق "أوكوس" (AUKUS). جميع هذه المسارات المختلفة في الشكل، المتقاربة في الجوهر، تشير إلى ولادة حقبة جديدة من المنافسة تحت الأمواج، حيث يعاد رسم ميزان القوى في واحدة من أكثر المناطق حساسية في العالم.

 

غواصات كوريا الشمالية

لطالما سعت بيونغ يانغ إلى نقل ردعها النووي من البر إلى البحر. ففي عام 2023، كشفت عن الغواصة "البطل كيم كون أوك"، ووصفتها بأنها غواصة هجومية تكتيكية نووية. غير أن المحللين رأوا أنها ليست أكثر من تحويل لغواصة تعمل بالديزل إلى نسخة مزودة بقاذفات صواريخ باليستية ومجنحة. محدودية قدرتها على التخفي والبقاء الطويل تحت الماء، جعلت منها أقرب إلى رسالة سياسية منها إلى اختراق عسكري نوعي.

ومع ذلك، تجبر "البطل كيم كون أوك" الخصوم على الاستعداد لاحتماليات تطوير غواصات مسلحة نووياً. الأهم أن بيونغ يانغ تلمّح إلى مشروع "استراتيجي" أكبر قد يحمل صواريخ باليستية عابرة، مثل "بوغكسونغ-6". نجاح هذا المسار يعني قدرة كوريا الشمالية على تهديد البر الأميركي حتى من المياه القريبة من شواطئها. وهذا ما يضاعف من تعقيد التخطيط العسكري لدى خصومها، ويؤكد إصرارها على تنويع أدوات الردع النووي لديها.

 

كوريا الجنوبية.. قوة تقليدية

اختارت سيول مساراً غير نووي وأكثر توازناً، إذ طوّرت غواصات "KSS-III" المتقدمة، المزودة بقاذفات عمودية لصواريخ باليستية ومجنحة محلية الصنع. بهذا أصبحت كوريا الجنوبية أول دولة غير نووية تنشر صواريخ باليستية بحرية.

الجيل القادم من الغواصات الكورية الجنوبية "KSS-III Batch II"، والمقرر دخوله الخدمة خلال العقد الجاري، سيعزز هذا التقدم. إذ سيحتوى على عشر صوامع إطلاق صواريخ عامودية، وأنظمة دفع صامتة، وبطاريات ليثيوم أيون متطورة، كلها تمنح هذه الغواصات قدرة على البقاء تحت الماء لأسابيع وتنفيذ ضربات بعيدة المدى. بهذا تحقق سيول معادلة الردع الاستراتيجي من دون خرق التزاماتها بعدم الانتشار النووي.

ورغم النقاشات المتكررة حول تصنيع غواصات تعمل بالدفع النووي، فإن المسار الحالي يوفر لكوريا الجنوبية أسطولاً قادراً على مقاربة قوة الغواصات النووية من حيث المدى والدقة، مع الحفاظ على مكانتها كدولة تلتزم القواعد الدولية.

 

اليابان.. صمت تكنولوجي

أما طوكيو، فقد ركزت على عامل مختلف لتطوير غواصاتها، ألا وهو الصمت والقدرة على التحمل. أسطولها الجديد من الغواصات فئة "تايغي"، يعتمد على بطاريات "ليثيوم أيون" ضخمة، ما يمنحها سرعة تحت الماء ومدة دوريات أطول وإعادة شحن أسرع.

هذا التوجه يتلاءم مع شبكة الحرب المضادة للغواصات التي تمتلكها اليابان، حيث تتيح لها الغواصات الصامتة مراقبة الممرات البحرية الحيوية وفرض سيطرة غير معلنة. ورغم ابتعادها حتى الآن عن الدفع النووي أو تسليح الغواصات بالصواريخ الباليستية، فإن طوكيو تدرس إدخال أنظمة إطلاق عمودية في الجيل المقبل من غواصاتها، ما قد يحول مهمتها من دفاعية بحتة إلى هجومية محدودة.

يبقى أن القوة الحقيقية لليابان تكمن في مزيج غواصاتها المتقدمة وطاقمها عالي التدريب، إضافة إلى التعاون الوثيق مع البحرية الأميركية، ما يعزز سيطرتها على النقاط البحرية الحرجة.

 

الصين.. نحو ردع نووي بحري مكتمل

الصين تمثل الوجه الأكثر تحوّلاً في هذا السباق. غواصاتها من فئة "جين" (Type 094) تخضع للتطوير لتزويدها بصواريخ "JL-3"، القادرة على ضرب الأراضي الأميركية من أماكن قريبة من السواحل الصينية. أما الفئة المقبلة "Type 096"، المتوقع أن تحمل حتى 24 صاروخاً باليستياً، فستدمج تحسينات في الدفع والتخفي وأجهزة الاستشعار.

أهمية هذا التطور تكمن في أن بكين تقترب من بناء ردع نووي بحري موثوق ومستدام، يقلل اعتمادها على منظومات النووية البرية المعرضة للاستهداف. هذا يجبر خصومها، من الولايات المتحدة إلى اليابان والهند، على استثمار موارد ضخمة في قدرات مضادة للغواصات، ويغير معادلة الأمن في المحيط الهادئ لعقود مقبلة.

 

"أوكوس" الإنغلو-أسترالية تدخل المعادلة

بعيداً عن شمال شرق آسيا، لكن وثيق الصلة بها، سيؤدي اتفاق "أوكوس" بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، إلى إدخال غواصات نووية جديدة إلى مياه المنطقة. بدءاً من عام 2027، ستتناوب غواصات أميركية وبريطانية على العمل انطلاقاً من سواحل أستراليا الغربية، على أن تحصل كانبيرا في ثلاثينيات هذا القرن، على غواصات من طراز "فرجينيا" الأميركية، ثم الغواصة المشتركة "SSN-AUKUS".

وعلى الرغم من التحديات الصناعية والبشرية الهائلة أمام هذا المشروع من توسيع القدرة الإنتاجية الأميركية إلى بناء قاعدة علمية نووية أسترالية، إلا أن الاتجاه العام واضح، تعزيز الوجود البحري النووي للحلفاء في المحيطين الهندي والهادئ، ما يزيد من الضغط على الصين ويعمّق سباق التسلح تحت الماء.

 

بحر مزدحم بلا قواعد اشتباك

إلى جانب الأبعاد الاستراتيجية، تبرز مخاطر مباشرة لانتشار الغواصات في مياه إقليمية ضيقة. الغواصات منصات غامضة بطبيعتها، ولا يمكن التمييز بسهولة بين ما تحمله من أسلحة. وفي لحظة أزمة، قد يؤدي رصد غواصة كورية شمالية غير معروفة التسليح إلى تصعيد غير محسوب.

ويزداد الخطر مع غياب أي نظام إقليمي للرقابة أو ضبط التسلح البحري، على عكس الصواريخ أو القاذفات الاستراتيجية. فمع استمرار الصين في توسيع أسطولها النووي وتجارب كوريا الشمالية، فإن غياب "قواعد اشتباك" أو اتفاقيات، يرفع احتمالات سوء التقدير.

 

العقد المقبل.. اختبارات حاسمة للردع البحري

في السنوات المقبلة، سيكون لكل طرف في هذا السباق البحري محطات فاصلة ستحدد شكل التوازنات الإقليمية. فبالنسبة إلى كوريا الشمالية، فإن أي تجربة فعلية لصاروخ باليستي بعيد المدى من البحر، ستكشف مدى اقترابها من امتلاك قدرة ردع عملية وليست مجرد رمزية. أما كوريا الجنوبية، فإن إدخال غواصات "Batch II" إلى الخدمة، سيتيح لها اختبار الحدود التي يمكن أن تبلغها التكنولوجيا التقليدية في مواجهة التحديات النووية.

أما في اليابان، سيحمل قرار طوكيو بشأن إدخال أنظمة الإطلاق العمودي على متن غواصاتها، دلالات استراتيجية مهمة، إذ سيشير إلى ما إذا كانت ستبقى ملتزمة بعقيدة دفاعية صرف أو أنها تتجه نحو توسيع مهامها إلى ما هو أبعد من الدفاع البحري. على الجانب الآخر، فإن الصين تستعد لمرحلة جديدة مع تدشين غواصاتها من فئة "Type 096" وتسيير دورياتها المحملة بصواريخ "JL-3"، ما سيجعل من ردعها النووي البحري ركيزة أساسية في استراتيجيتها العسكرية.

وأخيرا، سيكون اتفاق "أوكوس" تحت الاختبار مع اقتراب موعد تسليم غواصات "فرجينيا" الأميركية لأستراليا. قدرة الولايات المتحدة على الالتزام بالجداول الزمنية، ستحدد مصداقية المشروع برمته، وتؤثر بالتالي على موازين الردع في المحيطين الهندي والهادئ.

 

إدارة سباق معقد تحت سطح البحر

يتسم سباق الغواصات الآسيوي بكونه سباقاً معقدا أكثر منه عددياً. فبينما تبحث كوريا الشمالية عن رمزية نووية، تبني كوريا الجنوبية قوة تقليدية بصواريخ استراتيجية، وتحافظ اليابان على تفوقها في الصمت والمهارة، وتطور الصين رادعاً نووياً بحرياً حقيقياً، وتضيف "أوكوس" غواصات نووية غربية إلى المعادلة.

لكن الخطر يكمن في أن أدوات الردع قد تتحول إلى مصادر إشعال أزمات، إذا لم يتم التوصل إلى بروتوكولات لتنظيم الاحتكاكات والتجارب تحت الماء. ففي غياب ترتيبات ضبط التسلح، يظل خطر الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة قائماً. وهكذا، فإن سباق الغواصات في شمال شرق آسيا لا يعكس فقط توازنات عسكرية، بل يحدد أيضاً مستقبل النظام الأمني في المنطقة لعقود مقبلة.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث