في عام 2000، وتحديداً في منطقة الفحامة بدمشق، كنت أبحث عن مقعد شاغر في أحد السرفيسات القديمة التي بدت مقاعدها المتهالكة شاهداً على تعب المدينة وسنواتها الطويلة. أردت أن أكتشف دمشق أكثر، صعدت وسط تدافع الطوابير المنتظرة، ونجحت أخيراً في الظفر بمقعد جانبي لا يصلح للجلوس بقدر ما يصلح للهروب من الانتظار الذي طالما كرهته.
طالت المسافة، وبدأ الركاب بالنزول واحداً تلو الآخر. التفتُّ إلى أحدهم وسألته: "وين الدويلعة".
ابتسم وقال: "إنت هون... بحي القدم".
كان جوابه كافياً ليفتح أمامي نافذة جديدة على دمشق لا تشبه تلك التي عرفتها من قبل. حي القدم، كما علمت لاحقاً، يعود في تسميته إلى روايتين: الأولى تشير إلى صخرة قديمة في مسجد القدم كانت تُنسب إليها البركة، والثانية تربط الاسم بمدينة يمنية قدم أهلها إلى هذا المكان بعد الفتح الإسلامي.
لكن ما رأيته بعيني لم يكن أسطورة اسم ولا أثر حجر، بل حيّاً متعباً مثل أفراده، مختلطاً وعشوائياً، تتسارع فيه خطى الناس بحثاً عن لقمة العيش في مواجهة ضيق الحال وتقلّب الأيام.
يقع حي القدم في الجزء الجنوبي من دمشق، إلى الغرب من مخيم اليرموك، ويُعدّ أحد مداخل العاصمة الجنوبية، محيطاً بالمدينة القديمة من طرفها السفلي. تحدّه أحياء الحجر الأسود وداريا والسبينة والميدان والمزة وكفرسوسة، ما يجعله نقطة تماس بين دمشق التاريخية وضواحيها المتغيرة باستمرار.
رائحة الخبز
استيقظت على جوعٍ رمادي في صباح خريفي من دمشق. كانت رائحة الخبز المنبعثة من فرن آلي في حي القدم كافية لتوقظ المدينة فيّ. اشتريت رغيفاً وأكلته وأنا أتأمل المكان، في الأحاديث العابرة حولي، التقطت لكنات مختلفة، توحي بتنوع ساكني الحي القادمين من أطراف البلاد، لكن ما جمعهم جميعاً هو العيش في حي بالكاد يصلح للحياة ــ أو لعله ظل كذلك حتى اندلاع الثورة.
خلافاً لما يُشاع، لم يكن حي القدم عشوائياً بالكامل. ففي سبعينيات القرن الماضي، وضع النظام السوري خططاً لتوسيع دمشق جنوباً، في ما كان يُسمّى حينها بـ"دمشق الجديدة". كان الهدف إنشاء مناطق سكنية تُخصَّص للعائلات المقرّبة من السلطة، وتُمنح فيها الامتيازات لعناصر الجيش والمخابرات، لتشكل حزاماً اجتماعياً موالياً يحاصر العاصمة القديمة من جهتها الجنوبية.
لكن العقود التالية حولت هذه الطموحات إلى واقعٍ مختلف تماماً. فمع تزايد الهجرة الداخلية والفقر، تسرّبت العشوائية إلى أطراف الحي، وتراكمت مظاهر الإهمال. ومع اندلاع الاحتجاجات الأولى في 2011، كان حي القدم من أوائل الأحياء التي شهدت مظاهرات، سرعان ما تحولت إلى مواجهات مسلحة.
ثم انفجر الحي. تحول إلى جبهة تماس دائمة: الجيش طوّقه من جهة الميدان، والفصائل المسلحة تمركزت في الجهة المقابلة، من ناحية الحجر الأسود. وبين الطرفين، بقي المدنيون رهائن ينتظرون رغيفاً جديداً من الخبز الذي صار رمزاً للحياة نفسها.
في عام 2018، استعاد النظام السيطرة على الحي بعد حملات تهجير وتدمير شاملة. تم إخلاء الحي من سكانه تقريباً، وأُعيد رسم خرائطه العقارية ضمن المرسوم التنظيمي رقم 66، الذي شمل القدم والعسالي، تحت مسمى مشروع "باسيليا سيتي" ــ المشروع الذي رُوّج له بوصفه مدينة سياحية حديثة تعيد الحياة إلى جنوب دمشق.
لكن ما عاد من الحياة كان إسماً بلا روح. فحين حاول بعض أبناء القدم العودة، اكتشفوا أن منازلهم صودرت أو بيعت تحت لافتة "إعادة الإعمار"، وأن عائلاتٍ جديدة مرتبطة بالأجهزة الأمنية أُسكنت مكانهم.
يومها، أدرك أبناء الحي الأصليون أنهم خسروا الحجر والذاكرة وشقاء العمر. رحلوا إلى غير رجعة، تاركين خلفهم صدى أصوات في الأزقة الضيقة، جدراناً مثقوبة برصاص الحرب، ونوافذ كانت تطلّ على البساتين صارت تشهد على أبنية مهدمة بالقصف. هكذا انتهت القدَم القديمة، لتُبعث من تحت ركامها مدينة أخرى بلا سكان، تحمل الاسم نفسه، لكن لا تشبهه في شيء.
التحرير
"يسقط النظام"... كانت تلك العبارة بداية فصلٍ جديد من الحكاية في حي القدم. ومع أولى إشارات الانهيار، قرّر من تبقّى من أهالي الحي العودة إلى ديارهم. غير أن الطريق إلى البيت لم تكن طريقاً إلى الطمأنينة، بل إلى ماضٍ موجع. كل خطوة كانت تُثقلها الذكريات، وكل بابٍ يُفتح كان يفضي إلى سؤالٍ مؤلم:
هل ما زال هذا البيت لي؟
فمن سكن البيوت بعدهم، كان يحمل ورقة مختومة بختم النظام القديم، ورقة تُثبت "الملكية" رسمياً، لكنها تُشعل دفاتر المظلوميات والحقوق والانتماءات. ومع عودة الناس، انفجرت صراعات جديدة في الحي الذي كان يوماً يتقاسم فيه الجميع رغيف الخبز الواحد.
تحوّل الختم من رمزٍ للشرعية إلى تهمةٍ جاهزة. كل من امتلك وثيقة رسمية أصبح مشكوكاً فيه، وكل من لم يمتلكها صار يُسأل عن طائفته وانتمائه. وهكذا، عادت الحرب إلى القدم، لكن بوجهٍ جديد: حرب الهويات والانتماءات، لا حرب السلاح. توتر قاسٍ اجتاح المكان، حيث بدأ الحي الذي صمد في وجه النظام يُفرغ غضبه على من اعتُبروا جزءاً منه.
داخل هذا المشهد، ارتباك عاطفي عميق يخيّم على القدم. فكل بيت هناك تحول إلى أرشيف صغير لعلاقة شخصية مع الدولة: من قبض راتباً منها، من عذب في سجونها، من نجا بفضلها، ومن فقد بيته باسمها.
لكن المأساة تتكرر. فبينما تحاول "الدولة الجديدة" ترميم النظام الاجتماعي وإعادة فرض القانون، تُعاد الأخطاء ذاتها؛ تُهاجم بيوت من يُعتقد أنهم ينتمون إلى طائفة النظام البائد، تحت ذريعة الثأر والعدالة. وهكذا يبقى الحي عالقاً بين ماضٍ لم يُحاسب، وحاضرٍ لم يتعلم بعد كيف يُنصف الجميع.
معارك الملكيّة
هي ليست مجرد نزاعات عقارية، بل معركة العودة إلى المكان ــ بين سلطة السكان الأصليين الذين يرون في عودتهم حقاً تاريخياً غير قابل للتفاوض، وسلطة الوافدين الذين بنوا استقرارهم في سنوات غياب الدولة وتحولهم إلى أمر واقع.
البيوت التي صمدت أمام القصف تعيش اليوم حرباً جديدة: حرب الورق، وحرب القلق.
الناس يخشون أن تُعاد الجدران المهدمة، لكن من دون القدرة على ترميم الأرواح التي تهشّمت في الداخل.
في هذا السياق، تحاول الحكومة الجديدة صياغة قانون جديد للملكيّة في المناطق "المتضررة"، على حد وصفها. ووفق بيان صادر عن محافظة دمشق، فإن السلطات "تدخلت فوراً لضبط الموقف" بعد خلاف محدود بين عدد من الأهالي، مؤكدة ضرورة الاحتكام إلى القانون والمؤسسات المختصّة، وعدم الانجرار وراء أي ردود فعلٍ فردية.
لكن البيان جاء بعد تهجير فعليّ لعدد من العائلات العلوية من الحي، في منتصف الليل، وبقوة السلاح.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل ما يجري هو محاولات تهجير ممنهجة، أم ضغط طارئ ناتج عن انهيار الثقة والخوف المتبادل؟
الإجابة تكمن في التفاصيل. فالعائلات العلوية التي استقرّت في القدم خلال سنوات الحرب، خصوصاً في حارات العَنّازة والجزء المعروف بـ"حي الأسد ــ المحطة"، باتت اليوم تحت تهديد مباشر، إذ يصورها بعض المهاجمين على أنها "غريبة عن المكان" أو "ليست من أصحاب الأرض"، مع مطالبات علنية بإبعادها.
ورغم قسوة المشهد، فإن ما يحدث ــ وفق شهادات متقاطعة ــ ليس تهجيراً منظماً شاملاً، بقدر ما هو سلسلة من حالات الإخلاء القسري، والاختطاف الفردي، والدعوات ذات الطابع الطائفي.
هذه الأفعال تتغذى على بيئة الفوضى التي تلت سقوط النظام، حيث الفراغ القانوني يسمح للمجموعات المحلية أو الأفراد باستثمار النزاعات العقارية والطائفية لتحقيق مكاسب أو انتقام.
لكن ما يجب أن نتذكره كسوريين، بعدما دفعنا أثماناً باهظة من حياتنا وذاكرتنا، هو أنه لا يمكن بناء بيوتٍ جديدة على أنقاض الذاكرة القديمة، ولا يمكن أن نحيا داخل دائرة ثأر دائمة.
وفي المساء، حين تُطفأ أضواء المولدات وتغرق الأزقة في الظلام، يبقى السؤال معلقاً: هل سنسمح لهذا الحي أن يعيش من جديد؟ أم سيبقى عالقاً في نصف العودة، بين الخراب والحنين؟
