"جبل الباشان": هل يعيد الدروز تحديد تموضعهم السياسي؟

دمشق - واصل حميدةالاثنين 2025/10/13
67172628_1195823603930588_5593811164891971584_o.jpg
"جبل الباشان" رسالة سياسية في المقام الأول (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

«جبل الباشان» أم «جبل العرب»؟ 
تسميات تاريخية في مرآة السياسة المعاصرة



تصاعد الجدل في الشارع السوري خلال اليومين الماضيين بعد البيان الأخير للشيخ حكمت الهجري واستخدام مصطلح جبل باشان لدلالة إلى جبل العرب، الأمر الذي كشف عن حساسية رمزية مركّبة لدى أهالي الجبل، بين مخاوف من تماهٍ خارجي ومطالب محلية بالتركيز على العدالة والخدمات.

ناشطون ومثقفون سوريون تداولوا بياناً وقعوا عليه تحت عنوان "أيتها الحرية وداعاً إلى حين"، البيان وضع نفسه منذ السطور الأولى في موقع مضاد لأي خطاب طائفي أو مذهبي، ودعا إلى نبذ الخطاب الطائفي والمذهبي، مؤكداً انتماء الموقعين إلى سوريا الحرّة، سوريا المواطنة والعدالة، وشدّد على رفض جميع البيانات والخطابات ذات الطابع الديني أو المذهبي، أياً كان مصدرها، وعلى أهمية اعتماد لغة الحوار تحت سقف الوطن، ونبذ العنف والمظاهر المسلحة غير المنضبطة. كذلك طالب الموقعون "بتفعيل آليات العدالة الانتقالية لمحاسبة المجرمين بغض النظر عن انتماءاتهم، والعمل على نشر ثقافة المحبة والتسامح وقبول الآخر"، معتبرين أن السلم الأهلي هو الركيزة الأساسية لأي مشروع وطني جامع.

هذا البيان كان جزءاً من ردود فعل صاحبت بيان الشيخ حكمت الهجري الأخير لاستخدامه تسمية "جبل الباشان" بدلاً من "جبل العرب"؛ تسمية حملت بالنسبة إلى فئات واسعة دلالات تاريخية ودينية وتوراتية أثارت الريبة والخوف من تماهٍ في لغة الخطاب مع مفردات إقليمية ودولية حساسة، بينما رأت فئات أخرى أنها محاولة لإعادة تعريف سياسي وثقافي في لحظة متقلبة.

 

سياق الجدل: بين اللغة والرسائل السياسية

مضمون رسالة الهجري ومفردتها "جبل الباشان" لم تَخْرج عن كونها رسالة سياسية في المقام الأول لدى كثير من متابعي الشأن المحلي؛ اختيرت كلمة تحمل حمولة تاريخية وثقافية. فالتسمية أثارت تفسيرات متباينة: فئة اعتبرتها "اختياراً لغوياً بريئاً" أو "خياراً تعبيرياً محلياً"؛ وأخرى رأت فيها "محاولة رمزية" لتمرير رسائل سياسية أو تأكيد مواقف تجاه قوى إقليمية محددة. وفي وسط هذا التباين، تحوّل النقاش بسرعة من تسمية جغرافية إلى اختبار لهوية ولغة الخطاب السياسي في المحافظة.

اللافت أن الجدل لم يَدُر فقط في أطر النخب، بل امتد إلى الشارع، حيث عاد الاستياء الشعبي من تحوّل اهتمام الرأي العام عن مطالب جوهرية كالمحاسبة على انتهاكات وملفات المعتقلين وتأمين الخدمات إلى مناقشات هوية تبدو في ظاهرها لغوية لكنها في باطنها سياسية.

 

جذور «الباشان»: قراءة تاريخية 

مصطلح "باشان" أو "بَشَان" في النصوص القديمة، معروف في التراث التوراتي والكتابات التاريخية القديمة باعتباره اسماً لمنطقة واسعة في بلاد الشام، ذُكرت في مصادر قديمة كمنطقة ذات سهول وأراضٍ زراعية غنية، تمتد في النصوص إلى شرقي الشام. عبر العصور تغيّرت الحدود والمسميات بفعل عمليات الاحتلال، الانتشار السكاني، والتحولات السياسية؛ ومع ذلك بقيت أسماء قديمة تظهر وتختفي من التداول المحلي بحسب السياق السياسي والثقافي لكل مرحلة. بمرور الزمن استقرّ لدى السكان المحليين تسميات مختلفة للجبل؛ "جبل العرب" أسّس له معنى وطني ورمزي مرتبطاً بتاريخ مقاوم وجذور قبليّة وهويات محلية امتدت إلى ما قبل الانتداب الفرنسي، بينما "باشان" بقيت تسمية تاريخية/نصية تظهر في سياقات أخرى، وحين تُستعاد اليوم تُصادف حساسية إضافية بسبب البُعد الديني والتوراتي المرتبط بالاسم في النصوص القديمة.

هذا لا يجعل أحد الأسماء "أحقّ" تاريخياً من الآخر بالمعنى العلمي الأكاديمي، لكنه يشرح لماذا تُولِّد إعادة استخدام اسم قديم، يحمله نص ديني وتاريخي، ردود فعل مركبة في حاضر تميّزته حساسية الجغرافيا والتوازنات الجيوسياسية.


الاسم مرآة التحولات

يرى الكاتب والباحث السوري ماهر مسعود أن النقاش حول التسمية "لا يُختزل في الرفض أو القبول"، بل يشكل مدخلاً لفهم التحولات السياسية والاجتماعية التي تعيشها السويداء اليوم. يقول في حديثه لـ"المدن": "أنا لا أقبل ولا أرفض، بل أراقب ما وراء المصطلح من قوى وأسباب ونتائج". 
ويضيف في حديثه لـ"المدن" أن اهتمامه لا ينصب على أصل الكلمة أو معناها الديني، بل على الدلالات السياسية التي قد تحملها في هذا التوقيت. ويُذكّر بأن مصطلح "باشان" ليس جديداً كلياً، إذ استُخدم سابقاً في أسماء شركات ومشاريع محلية، ما يجعله جزءاً من الحضور اليومي للمنطقة إلى جانب مسميات أخرى عرفها الجبل مثل "جبل الريان" و"جبل الدروز" و"جبل حوران".

يعتبر مسعود أن الهوية التاريخية للجبل لم تكن ثابتة يوماً، بل خضعت لتحوّلات متتابعة عبر القرون، تبعاً لاختلاف القوى التي سكنت المنطقة، "من الرومان إلى الدروز، مروراً بكل المراحل الوسيطة، كانت هوية الجبل تتشكل باستمرار تبعاً للظروف السياسية"، مشيراً إلى أن هذه الطبيعة المتحركة للهوية تجعل من النقاش حول التسمية مسألة رمزية أكثر منها جوهرية.

يرى مسعود أن مصطلح "جبل الباشان" لا يحمل دلالات دينية بقدر ما يعكس توجهاً سياسياً في البيان الأخير، لافتاً إلى أن الشيخ الهجري "وجّه عبرها خطاباً إلى الداخل والخارج في آن واحد، يؤكد فيه أن المركز لم يعد هو المرجعية الأساسية، وأن لأهالي السويداء حقهم في تحديد هويتهم السياسية المستقلة".
أما عن اسم "جبل العرب"، فيرى أنه كان يحمل في الأصل "توجّهاً نحو العالم العربي، وشعوراً بالانتماء إلى محيط أوسع"، خصوصاً في ظل تمركز أقلية ديموغرافية داخل الجبل. لكن يضيف بنبرة نقدية أن "خُذلان العالم العربي لأهالي السويداء في محنتهم، تماماً كما خذلوا الثورة السورية والقضية الفلسطينية، جعل من الاسم مجرد رمز لم يعد يحمل المعنى نفسه" وبالتالي، باتت التسمية بالنسبة له مسألة يحددها "أهل الجبل أنفسهم، بحسب موقعهم السياسي ومصلحتهم الواقعية".

 

بين الرمز والواقع

الناشط السياسي السوري توفيق هنيدي، يتفق مع مسعود في أن التسمية تحمل أبعاداً سياسية أكثر منها لغوية، لكنه يذهب أبعد في تحديد دوافعها. فيرى أن "استخدام مصطلح جبل الباشان اليوم لا يمكن اعتباره بريئاً، بل جاء في سياق سياسي مضطرب شهد تدخلاً مباشراً من إسرائيل لصالح أبناء السويداء في مواجهة السلطة الجديدة برئاسة أحمد الشرع".

ويضيف هنيدي في تصريح لـ"المدن" أن ذلك التدخل "خلق حالة من الامتنان لدى بعض الفئات، وربما رغبة لدى نسبة محدودة لا تتجاوز 25% في توطيد العلاقة مع قوة إقليمية قادرة على حمايتهم"، معتبراً أن التسمية الجديدة جاءت انعكاساً لهذه الحالة.

لكنه يشدّد في المقابل على أن الغالبية الساحقة من أبناء السويداء ترفض هذه المقاربة، وتتمسك بهويتها العربية والوطنية، لأن "الاستبداد يجب أن يُواجه ضمن الإطار الوطني لا بالارتهان إلى الخارج أو عبر تغيير الهوية الثقافية والسياسية للجبل".

ويُذكّر هنيدي بأن اسم "جبل العرب" ارتبط تاريخياً بالثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي وبالهوية العربية لأبناء الجبل من أصول يمنية وقيسية، ولهذا أصبح الاسم جزءاً من الوجدان الجمعي، لا مجرد مصطلح جغرافي.

 

المفاجأة والتحوّل عن الأولويات

من جانبه، وصف الناشط المدني والمهندس سلمان كاتبة التسمية الجديدة بأنها "خطوة مفاجئة تُحرف النقاش عن المطالب الحقيقية لأهالي السويداء"، موضحاً خلال حديثه لـ"المدن" أن المصطلح لم يكن متداولاً في الخطاب الشعبي من قبل، ما يجعله محاولة لفرض هوية أو مصطلح دون التشاور مع الناس أو أخذ رأيهم.

ويرى كاتبة أن طرح هذه المسألة في هذا التوقيت يُبعد الأنظار عن القضايا الجوهرية، مثل تلبية احتياجات الأهالي ومحاسبة المسؤولين عن المجزرة الأخيرة، معتبراً أن الجدل حول الاسم حرف النقاش عن العدالة والمحاسبة إلى معركة رمزية حول الهوية.

ويضيف أن استخدام مصطلح توراتي في هذه اللحظة "يجعله مشبوهاً سياسياً، لا دينياً"، ويقول: "نأمل أن يكون اختيار المصطلح صدفة، لا محاولة لمغازلة إسرائيل، خصوصاً بعد رفع الأعلام وشكر العدو في بعض الفعاليات الأخيرة". 

 

هوية واحدة.. وسياقات مختلفة

رغم اختلاف مقارباتهم، يتفق مسعود وهنيدي وكاتبة على أن جوهر الأزمة في السويداء لا يتعلق بالأسماء بل بالسياسات. فمسعود يرى أن التسمية مرآة لتحوّل سياسي يعكس رغبة بعض القوى المحلية في إعادة تعريف هويتها السياسية المستقلة. وهنيدي يحذّر من أن هذا التحول قد يكون جزءاً من اصطفاف إقليمي جديد يهدد الهوية الوطنية الجامعة. أما كاتبة فيعتبر أن التوقيت واللغة يُسهمان في صرف الانتباه عن المأساة الإنسانية والاقتصادية التي يعيشها السكان.

وفي حين يرى مسعود أن التسمية تعبّر عن تحوّل رمزي أكثر من كونها تهديداً للهوية، يراها هنيدي تعبيراً سياسياً مقصوداً، ويصفها كاتبة بأنها انحراف عن الأولويات الملحّة.

 

نحو حوار وطني جديد

يتفق الضيوف الثلاثة من أبناء جبل العرب على أن الحل لا يكمن في السجال حول الأسماء، بل في الحوار الوطني، فهنيدي يدعو السلطة إلى تجريم الخطاب الطائفي، وفتح قنوات حوار شفاف تحت رقابة دولية، وكاتبة يشدّد على أن السويداء لا يمكن أن تكون إلا جزءاً من سوريا الموحدة، مع ضرورة مناقشة اللامركزية الموسعة ضمن هذا الإطار. أما مسعود فيؤكد أن أهل الجبل وحدهم من يحددون هويتهم، وفق مصلحتهم الواقعية وموقعهم السياسي.

ويخلصون إلى أن التسمية ليست سوى انعكاس لحظة سياسية مضطربة، وأن ما تحتاجه السويداء اليوم هو العدالة والمحاسبة والإصلاح السياسي والاقتصادي، لا تغيير الأسماء أو الرموز.
 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث