خلال أشهر طويلة من الحرب على قطاع غزة، كنا نحن البعيدون نتابع الأخبار كمن يقرأ خرائط الدمار من وراء زجاج؛ كلما سمعنا أن "قصفاً إسرائيلياً استهدف مناطق زراعية مفتوحة" تسرّب إلينا ارتياح خفيف وخاطئ، كأن الكارثة توقفت عند خطٍّ مرسوم على الأرض، بعيد عن البيوت، عن المستشفيات، عن المدارس، عن تجمعات الناس. لا أرقام فورية للضحايا، لا صور لأجساد تحت الأنقاض، لا دليل على "مجزرة" بالمقاييس التي ألفناها في تغطية هذه الحرب الدموية.
لم نكن ندرك حينها أن هذه الأخبار "الثانوية" ستكون الأصعب بعد وقف الحرب. كان الهدف حينها أقل وضوحاً، لكنه بالطبع لم يكن أقل دموية. أنه استهداف ليس فقط لحاضر تقتله الصواريخ حين تنهار البيوت فوق رؤوس ساكينها، بل لمستقبل يُمحى عندما تُحرق حقول كاملة كانت ستشكل مصدراً للتعافي، عندما تُدمر تربةٌ قد تستغرق عقوداً لتعود إلى ما كانت عليه. كل صاروخ يسقط على أرض زراعية "مفتوحة" كان يستهدف قدرة الفلسطينيين على تخيّل غدٍ ممكن.
لم تكن الزراعة وحدها هي الهدف، إن ما يتكشف في قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، يمثل تجسيداً فاجعاً لمفهوم "الإبادة البيئية"، التي لم تكن مجرد "أضرار جانبية" لعمليات عسكرية، ولا هي نتيجة عشوائية لآلة حرب عمياء، بل هي استراتيجية محسوبة، مدروسة بعناية، تستهدف الأبعاد الزمنية للحياة الفلسطينية في أعمق تجلياتها. حين كانت آليات جيش الاحتلال الإسرائيلي تجرف الأشجار المعمّرة التي احتاجت عقوداً لتمد جذورها في الأرض، وحين تُسمّم المياه الجوفية، وحين تُدمر التربة الزراعية، فإن ما يُستهدف يتجاوز اللحظة الراهنة بكثير – إنه استهداف للقدرة ذاتها على تخيل المستقبل، على حلم بحياة ممكنة خلال الحرب وبعد وقفها.
الجذور الاستعمارية للتدمير البيئي
لفهم ما يجري في غزة، قد يكون علينا العودة إلى تاريخ عدة تجارب استعمارية في توظيف البيئة كسلاح، حيث شكل استهداف البيئية منذ البداية عنصراً محورياً في المشاريع الاستيطانية عبر الزمن. أدرك المستوطنون في سياقات متعددة أن الهيمنة على الأرض لا تقتصر على احتلال المساحة الجغرافية، بل تستلزم قطع الرابطة الحيوية بين السكان الأصليين ومحيطهم الطبيعي. كما تشير دراسات الاستعمار الاستيطاني، فإن الهدف كان تعطيل العلاقة العضوية بين الشعوب الأصلية وبيئتها الطبيعية بطريقة عنيفة ومنظمة.
في أميركا الجديدة، احتكر المستوطنون منذ البداية أساليب إدارة الأراضي، ما أحدث أضراراً جسيمة – جسدياً وبيئياً واقتصادياً وثقافياً – لدى السكان الأصليين، إذ سلبوهم قدرتهم على التفاعل مع أرضهم وطرق تعاملهم التقليدية معها، متجاهلين المركزية الأساسية للأرض في هويتهم وحياتهم. لهذا طوّرت دراسات عديدة في عالم الاجتماع والأنثربولوجيا مفهوم "العنف البيئي" لتفسير هذه الممارسات المنظمة.
كذلك، تبرز حرب فيتنام كمثال تاريخي فاضح للإبادة البيئية كأداة عسكرية، حيث استعملت القوات الأميركية مواد كيماوبة كـ"العامل البرتقالي" لتجريد الغابات وإتلاف المزروعات، بهدف حرمان الفيتناميين من الغذاء والحماية الطبيعية. هذا الاستهداف المتعمد لم يكن مجرد تكتيك قتالي، بل استراتيجية لتحويل الأرض إلى مكان لا يُعاش فيه، مما أدى لظهور مصطلح "الإبادة البيئية" في الخطاب السياسي العالمي.
في الحالة الفلسطينية تحديداً، انشغل المشروع الصهيوني منذ انطلاقته بإعادة تعريف العلاقة بين الأرض والإنسان. منذ البدايات، روّجت الأدبيات الصهيونية لوصف فلسطين بأنها أرض قاحلة، كمبرر للاستيطان عبر شعار "جعل الصحراء تُزهر". هذه الرواية لم تكن مجرد تبرير سياسي، بل إنكار لعلاقة الفلسطينيين بأرضهم ولقدرتهم التاريخية على زراعتها وإحيائها.
استهداف القطاع الزراعي في غزة
تشير البيانات المختلفة، إلى أن العائلات الفلسطينية في غزة كانت تعتمد على الزراعة لتغطية أكثر من 40% من حاجاتها من الخضار والفواكه من الإنتاج المحلي قبل اندلاع الحرب. لكن بحلول شباط/فبراير 2024، كشفت صور الأقمار الصناعية أن الآلة العسكرية الإسرائيلية دمرت أكثر من 65 كيلومتراً مربعاً من المزارع والبساتين (38% من مجموع المساحات الزراعية). كذلك، استُخدمت الجرافات والدبابات لاقتلاع البساتين والحقول المزروعة. وفي أيلول/سبتمبر 2024، قدّرت منظمة الأغذية والزراعة الأممية أن ثلثي الأراضي الزراعية تضررت بشكل بالغ.
من أصل 7 ألاف و500 بيت محمي، دُمر ثلثها كلياً، فيما بلغت نسبة التدمير 90% في شمال غزة و40% في خانيونس. هذا الإتلاف المنهجي للبنية الزراعية لم يكن عشوائياً، بل جزءاً من استراتيجية واضحة لتدمير قدرة غزة على إنتاج غذائها، وبالتالي خلق حالة تبعية وجوع دائمين. بنهاية 2024، واجه سكان غزة بأكملهم مستويات طارئة من انعدام الأمن الغذائي (المرحلة الرابعة)، قبل أن يتفاقم التحويع ويصل إلى أعلى مراحله في العالم الحالي.
لفهم حجم الكارثة، يمكن الإشارة إلى أن الأشجار كانت تغطي ثلث المساحة المزروعة في غزة. لكن بنهاية أيلول/سبتمبر 2024، تضرر 67% منها. وبتاريخ 21 كانون الثاني/يناير 2025، قفزت النسبة إلى 80%، مع خسائر تتجاوز 90% في الشمال. وفق وزارة الزراعة الفلسطينية، دُمر حوالي 74% من مساحة الزيتون، أي خسارة نحو مليونين و290 ألف شجرة زيتون.
هذا التدمير الممنهج للأشجار لا يمكن تبريره بضرورات عسكرية. فقد أظهرت دراسات الأقمار الصناعية للجغرافية، من جامعة "كينت ستيت"، أن التدمير كان منهجياً ومتعمداً، شمل اقتلاع الأشجار بالجرافات وحرق البساتين. يشير محامون دوليون إلى أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب ضد البيئة الطبيعية في غزة بقدر ما ترتكبها ضد سكانها، حيث تحظر اتفاقية جنيف الحرب التي تسبب "ضرراً واسع النطاق وطويل الأمد وشديداً للبيئة الطبيعية".
تسميم المياه: قطع شريان الحياة
كان قطاع غزة يعاني قبل الحرب من أزمة مياه مزمنة بسبب الكثافة السكانية واستنزاف المياه الجوفية وتسرب مياه البحر والتلوث الزراعي ومياه الصرف. لكن الحرب حولت هذه الأزمة البطيئة إلى انهيار شامل. خلال الأربعة أشهر الأولى، دُمر 60% من البنية التحتية للمياه، بما فيها محطات الضخ والتحلية ومعالجة الصرف الصحي. بحلول فبراير 2025، كانت الشبكة بأكملها تقريباً معطلة.
تلوثت المياه الجوفية بالسموم والذخائر. وفي آب/أغسطس 2024، انخفض متوسط مياه الشرب الداخلة لغزة إلى ربع ما كان متاحاً في آب 2023. في كانون الأول/ديسمبر 2023، كان لدى الأطفال النازحين في الجنوب إمكانية الوصول لـ1.5- 2 لتر فقط يومياً من إجمالي المياه، وهو أقل من 3 لترات من مياه الشرب اللازمة للبقاء، وأقل بكثير من الحد الأدنى البالغ 15 لتراً في حالات الطوارئ. أدى تدمير 88% من آبار المياه وجميع محطات التحلية إلى انخفاض 94% في حجم المياه مقارنة بالعام السابق. ونتيجة لذلك، أفاد 70% من السكان باستهلاكهم مياهاً مالحة أو ملوثة، بحسب دراسة نُشرت على المجلة الأميركية للصحة العامة.
الأنقاض السامة والتلوث طويل الأمد
إضافة إلى ذلك، ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، فقد ولّدت الحرب ما يُقدر بـ39 مليون طن من الأنقاض – أي أكثر من 107 كيلوغرام لكل متر مربع في القطاع. هذا أكثر من خمسة أضعاف أنقاض معركة الموصل 2017 في العراق. تشكل هذه الأنقاض مخاطر صحية وبيئية، من الغبار والذخائر غير المنفجرة والأسبستوس وغيرها من المواد الخطرة.
تحتوي تربة غزة على عناصر مشعة ومسرطنة، كاليورانيوم المنضب والفوسفات، مدمجة في الأنقاض المعاد استخدامها. كذلك، فإن استخدام الفوسفور الأبيض من قبل الجيش الإسرائيلي كان له عواقب بيئية وصحية خطيرة، حيث يسبب التعرض طويل الأمد أمراضاً تنفسية وسرطانات. كما أن تدمير الألواح الشمسية يؤدي لتسرب الرصاص والمعادن الثقيلة، مما يخلق نوعاً جديداً من المخاطر على تربة غزة ومياهها.
يمكن توقع استمرار الآثار السامة للمواد الكيماوية المنبعثة، بما فيها المعادن الثقيلة، لعقود. كشفت عدة دراسات أن هناك عواقب كبيرة لتلوث المعادن، مثل الزيادة في الولادات المبكرة والعيوب الخلقية، كأثر للصراعات المتكررة في المنطقة خلال العقود الماضية. يهدد التلوث البيئي النظام الصحي من خلال الإضرار بالبنية التحتية الصحية وزيادة الأعباء والاحتياجات.
دائرة العنف المتصلة
أدى تدهور البنية التحتية للصرف الصحي إلى آثار صحية خطيرة وزيادة في الأمراض الإسهالية. في حزيران/يونيو 2024، تم تأكيد فيروس شلل الأطفال البديل من النوع 2 في 11 عينة بيئية وطفل عمره 10 سنوات. انخفضت تغطية التطعيم ضد شلل الأطفال من 99% قبل الحرب إلى 89% عام 2023، بحسب وزراة الصحة الفلسطينية. هذا التراجع في الطب الوقائي يهدد بعودة أمراض اختفت من غزة منذ عقود.
تلوث الهواء من الدخان والجسيمات الناتجة عن القصف يشكل خطراً آخر. تراكم الأنقاض والنفايات غير المعالجة يخلق بيئة مثالية لتكاثر الحشرات والقوارض الناقلة للأمراض. في ظل انهيار النظام الصحي، فإن هذه المخاطر البيئية تتحول إلى كارثة إنسانية متفاقمة.
بحلول حزيران 2024، وُصف شمال غزة بأنه "أرض قاحلة"، عاجز عن دعم الحياة. نطاق وتأثير التدمير المنهجي للزراعة دفع مجموعة تعمل في جامعة لندن وشبكة المنظمات البيئية الفلسطينية، للمطالبة بالتحقيق مع الحكومة الإسرائيلية بتهمة جريمة الإبادة البيئية وفقاً لنظام روما الأساسي، بسبب "ضرر واسع النطاق وطويل الأمد وشديد للبيئة الطبيعية".
الإبادة البيئية كوجه من وجوه الإبادة الجماعية
في المحصلة، فإن ما يتكشف في غزة يتجاوز مفهوم "الدمار البيئي" بوصفه نتيجة عرضية لصراع مسلح؛ إننا أمام إبادة بيئية منهجية، منسوجة بعناية داخل نسيج مشروع إبادي أوسع. الإبادة، في جوهرها الأعمق، ليست فقط إنهاءً للحياة البشرية، بل هي تفكيك ممنهج للشروط المادية والطبيعية التي تجعل الحياة ذاتها قابلة للاستمرار.
تنتمي الإبادة البيئية في غزة إلى سلسلة طويلة من الممارسات الاستعمارية الاستيطانية، حيث يتم محو الشعوب الأصلية عبر قطع أواصرها الحيوية بالأرض. لكن الخصوصية هنا تكمن في شموليتها المطلقة وسرعتها المذهلة. في غضون عامين، تم تدمير ما استغرق بناؤه وحمايته أجيالاً متعاقبة. شمال غزة، الذي كان ثلثا مساحته أرضاً زراعية نابضة بالحياة، تحوّل إلى فضاء قاحل تماماً.
هذا التدمير الممنهج للنسيج البيئي الفلسطيني يمثل شكلاً من أشكال "المحو البيئي"، استراتيجية تسعى لجعل عودة الحياة إلى طبيعتها أمراً مستحيلاً. إنه محو متعدد الأبعاد: للذاكرة الجماعية المتجذرة في الأرض، للهوية المنسوجة بخيوط الزراعة والطبيعة، وللمستقبل الذي كان ممكناً.
الإبادة البيئية في غزة تتجاوز التصنيفات القانونية لجرائم الحرب؛ إنها جريمة ضد الحياة في تجلياتها الأساسية، ضد الأجيال الحاضرة والقادمة معاً، ضد إمكانية الوجود الفلسطيني على هذه الأرض بوصفها وطناً قابلاً للعيش. في هذا السياق، يصبح التدمير البيئي ليس مجرد أداة في حرب، بل وجهاً من وجوه مشروع أوسع يسعى إلى إنهاء علاقة وجودية بين شعب وأرضه، إلى محو الروابط العضوية التي تربط الإنسان بمحيطه الطبيعي، وإلى تحويل الأرض ذاتها إلى شاهد على الاستحالة بدلاً من أن تكون حاضنة للحياة.
