شهادة من داخل الفرقة الرابعة: أوامر التسليم لا القتال

خاص - المدنالأحد 2025/10/12
assad02.jpg
ماهر الأسد.. بدأ حياته عاشقاً للدراما وانتهى به الأمر بطلاً بدراما البلاد نفسها (إنترنت)
حجم الخط
مشاركة عبر

في زاويةٍ شبه معزولة من أحد مقاهي جبل قاسيون في دمشق، كان يجلس بهدوءٍ، متأملاً غارقًا في سحب الدخان الكثيف المنبعث من "نرجيلته". يرتدي سترة رياضية وسروالاً من النوع نفسه، وتغطي رأسه طاقية سوداء بسيطة. مظهره لم يكن يوحي بأنه أحد أبرز رجال السلطة في سوريا، لكنّ المشهد في عام 2009 كان كفيلاً بإثارة التساؤلات..
لم يرفع ماهر الأسد رأسه عن الأرض طوال جلوسه. بدا كأنه غارق في شرودٍ أو تفكيرٍ ثقيل، بينما كان النادل ــ الذي يعرف عاداته جيداً ــ يتنقل بصمتٍ لتبديل رؤوس "النرجيلة" واحداً تلو الآخر.
ستة رؤوس كاملة أحرقها الدخان قبل أن ينهض بصمتٍ ويرحل. وحين سألته، اكتفى النادل بجوابٍ مقتضب: "يجلس هنا كل يوم، في المكان نفسه، في الوقت نفسه".
لاحقاً، عرفت أن هذا الركن ليس المكان الوحيد الذي يلجأ إليه ماهر الأسد للانزواء.
ففي أسفل مطعم "أحلى طلّة" الشهير على قمة قاسيون، توجد مغارة صغيرة أُعدّت خصيصاً له، يقضي فيها ساعاتٍ طويلة وحيداً مع "نرجيلته"، يطلّ من تحت المطعم على العاصمة دمشق التي تمتد أمامه كخارطةٍ من الضوء والظلال.
المطعم مملوك لرجل الأعمال خالد قدور، أحد المقربين من ماهر الأسد. وقد فرضت عليه وزارة الخزانة الأميركية عقوباتٍ بموجب الأمر التنفيذي رقم 13572 الصادر عام 2011، لدوره في دعم أنشطة النظام السوري البائد.
وجاء في بيان الوزارة أن قدور قدّم دعماً مادياً ومالياً للفرقة الرابعة، وساهم في إدارة عمليات التمويل والتهريب غير المشروعة التي تمثل الذراع الاقتصادية لماهر الأسد.
هكذا، بين مقهى هادئ على قاسيون ومغارةٍ سريةٍ تحت مطعمٍ فاخر، تتقاطع تفاصيل الصورة الخفية لرجلٍ يفضّل الصمت والدخان على الأضواء، لكنه يبقى حاضراً في قلب السلطة السورية كأحد أكثر رموزها غموضاً وتأثيراً.


شاهد عيان 
تندلع الثورة السورية عام 2011، ومعها تتكاثر الوجوه، الشعارات، والتهديدات. لكن بين الأصوات الموالية التي ملأت الشوارع، كان هناك تهديدٌ متكرر يتداوله أنصار النظام بنبرةٍ واثقة: "انتظروا… ماهر الأسد لم يرتدِ بزّته العسكرية بعد، ولم يخلع بيجامته بعد".
تلك الجملة وحدها كانت كافية لإعادة صورةٍ قديمةٍ إلى ذهني ــ صورة ذلك الرجل الذي رأيته ذات يوم في أحد مقاهي جبل قاسيون، يجلس بصمتٍ، محاطًا بالدخان، في ملامحه مزيجٌ من الغموض والانغلاق، وكأنّه يحمل في عينيه أكثر مما يقول لسانه.
منذ تلك اللحظة، بدأ الفضول ينهشني: من هو هذا الرجل الذي يخشاه الجميع؟
ماهر الأسد، الأخ الأصغر للرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، وقائد الفرقة الرابعة، أكثر تشكيلات الجيش السوري نفوذاً ــ ظلّ دائماً الشخصية التي تتحرك في الظل.
لا يتحدث كثيراً، لا يظهر كثيراً، لكنّ أثره حاضر في كل ما يجري، من جبهات القتال إلى دهاليز السياسة، وحتى إلى عالم الدراما السورية نفسه.
فعلى غير ما يُتوقّع من ضابطٍ عسكري، يُعرف عن ماهر ولعه بالدراما التلفزيونية، خصوصاً تلك التي تتناول قضايا الفساد والنفوذ في الدولة.
حين كانت هيئة الرقابة في التلفزيون السوري تمنع عرض مسلسلٍ بحجة تجاوزه للخطوط الحمراء، كان ماهر الأسد نفسه يتدخّل للسماح بعرضه، مهما بلغت جرأته.
مسلسلات مثل "غزلان في غابة الذئاب" و"الولادة من الخاصرة" ــ التي صوّرت انحرافات المسؤولين وأبناء النخبة ــ لم تُعرض إلا بإشارته، كما يؤكد من عملوا في كواليس الإعلام الرسمي.
لم يكن ذلك حباً بحرية التعبير، بل استخداماً واعياً للدراما كأداة ضغط، رسالة مبطّنة لمن في السلطة مفادها أن كل فاسدٍ هو ورقة يمكن حرقها في أي لحظة.
ويُقال إن ماهر كان يُشاهد المسلسلات قبل بثها، وأنه أبدى إعجابه الشديد بمسلسل "ملوك الطوائف"، ربما لأنه رأى فيه انعكاساً لصراعات الحكم والسلطة، تلك التي لم تفارق حياته يوماً ــ لا في الميدان العسكري، ولا في العلاقة المعقّدة التي تجمعه بشقيقه الرئيس.


دراما مستمرة 
إنها دراما لا تنتهي، على الشاشة كما في الواقع. فماهر الأسد، الرجل الغامض الذي بدأ حياته عاشقاً للدراما، انتهى به الأمر بطلاً في دراما البلاد نفسها ــ دراما ما زالت فصولها تُكتب على وقع الرصاص والرماد، بينما يجلس هو في مكانٍ ما، يُدخّن "نرجيلته"، مراقباً المشهد من بعيد.
هو اللواء ماهر حافظ الأسد، شقيق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، وأحد أكثر الشخصيات نفوذاً وإثارة للجدل داخل النظام السوري. تولّى قيادة الفرقة الرابعة المدرّعة ــ وهي إحدى أقوى وأغنى التشكيلات العسكرية في البلاد، وذراع النظام الأشد بطشاً وانضباطاً.
ورغم أن ماهر لم يُعيَّن رسمياً قائداً للفرقة إلا في نيسان/أبريل 2018، فإن معظم التقارير الميدانية وشهادات العسكريين تشير إلى أنه كان الآمر الفعلي في مفاصلها منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011.
ومنذ ذلك الحين، ارتبط اسمه بملفات دامية وانتهاكات واسعة ارتكبتها قواته ضد المدنيين في درعا وحمص وريف دمشق، ليصبح لاحقاً هدفاً لعقوبات دولية متعددة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، بتهم تتعلّق بـ"القمع الممنهج" و"الجرائم ضد الإنسانية".
لكن وراء هذه الصورة الصلبة، ثمّة وجه آخر قلّما يتحدّث عنه أحد.
في صدفة غريبة  التقيتُ ضابطاً سابقاً في الفرقة الرابعة، يعمل اليوم عاملاً مؤقتاً في ورشة لإصلاح المنازل.
طلب عدم ذكر اسمه، مكتفياً بالحروف الأولى من اسمه "ر.ج"، لكنه تحدّث بصراحة عن سنوات خدمته في صفوف "الرابعة".
يقول وهو يسحب نفساً من سيجارته: "المعلم ماهر كان انعزالياً جداً… قليل الكلام… بيحب يضلّ قريب من دمشق. كان لازم كل شي يمر من تحت نظره".
كان مكتبه في إدارة أمن الفرقة الرابعة، على بعد مئات الأمتار فقط من القصر الجمهوري.
يضيف "ر.ج": "ما منعرف شو بيشوف بالضبط. بيقعد ساعات يراقب… البشر ولا الحجر، ما منعرف. أحياناً منعتقد إنو جوّا المكتب بيطلع مو موجود ، وفجأة بيظهر قدّامك بدون ما تحس".
يصفه الضابط بأنه قائد حاضر رغم الغياب. لا يرفع صوته، ولا يطيل الكلام، لكنه يدير الأمور بإيماءة من رأسه.
ويتابع: "كان يساعد العساكر… يدفع تكاليف عمليات لعائلاتهم… يوقّع ورقة من غير ما يحكي. وإذا ما شفتو، بتروح لعند مدير مكتبه غسان بلال، هو الشخص التاني اللي بيدير كل شي".

 

الفرقة الرابعة
تُعدّ الفرقة الرابعة واحدة من أكثر الوحدات العسكرية تدريباً وتجهيزاً في سوريا. حصل عناصرها على تدريبات خاصة على القتال في المدن، وتمتّعت بامتيازات مالية وأمنية تفوق باقي الفرق.
يصفها كثيرون بأنها الوريثة غير المعلنة لـ"سرايا الدفاع" التي قادها رفعت الأسد في الثمانينيات، بنفس المظاهر من الرفاهية والانضباط الحديدي.
يروي "ر.ج" أنه رأى ماهر الأسد للمرة الأولى بعد تفجير مبنى الأمن القومي في تموز 2012 ــ الحادث الذي أودى بعدد من كبار المسؤولين الأمنيين، ودفع دمشق إلى أعتى فوضى شهدتها العاصمة منذ بداية الحرب.
كما اتذكر يومها نزلت الفرقة الرابعة الى الشوارع كنا نراها كسكان للمرة الأولى … المعارك في كل مكان، لباسهم يوحي بالفخامة والرفاهية بعكس لباس الجيش. 
خاضت الفرقة معارك عنيفة في جنوب ووسط دمشق، وتمكّنت خلال أيام قليلة من استعادة السيطرة على العاصمة بعد شللٍ دام خمسة أيام.
يقول "ر.ج": "هو شخص كريم… وبيحب العساكر تبعو. بعد المعركة، وزّع مكافآت بنفسه، وقال لازم دمشق ترجع تتنفس".

 

رجل السلطة والغموض
منذ ذلك الحين، رسّخ ماهر الأسد مكانته كـ"رجل المهمات الصعبة". قائدٌ لا يظهر كثيراً في الإعلام، ولا يتحدث في السياسة علناً، لكنه يحكم من وراء الستار ــ يراقب دمشق بصمتٍ من مكتبه القريب من القصر، كما لو أنه يمسك بخيوط اللعبة كلها.
يقول أحد المقرّبين منه: "هو لا يحب الأضواء، لكنه يملك قدرة نادرة على السيطرة. يترك الآخرين يتحدثون، بينما هو يكتفي بالمراقبة… وقرارٌ واحد منه كفيل بأن يغيّر كل شيء".
ماهر الأسد ــ الذي يراه البعض ظلّ السلطة الحقيقي في سوريا ــ يجسّد المعادلة التي قامت عليها الدولة السورية الحديثة: قوة مفرطة في العلن، وغموض محكم في العمق.

 

سقوط حر 
جاء السقوط كصفعةٍ قويةٍ تفاجأ بها الجميع. قبل  يومين فقط من الحدث، كان ماهر الأسد في مكتبه ــ يؤكد الضابط السابق انه رآه بأمّ عينه  ــ وكان وجهه يعبّر عن ثقل اللحظة. تنهد مطوّلاً، وكأنما يفرّغ صدره من كل الهموم دفعةً واحدة، ثم وضع رأسه بين يديه.
قال وهو يذكر المشهد بمرارة: "كان يوماً مرعباً... لم نرغب برمي السلاح، كنا نريد القتال".
عندما سألته عن تفاصيل طريقة الانسحاب وتسليم المواقع، أجاب بعفويةٍ موجزةٍ: كان ذلك في الساعة الرابعة فجراً، عبر نفقٍ رآه للمرة الأولى آنذاك. عرف لاحقاً ــ كما روى ضابط من الفرقة ــ أن اللواء نفسه كان يعتمد ذلك الممر للوصول إلى مكتب أمن الفرقة الرابعة.
بعد خروجهم من النفق، سار الرجل على قدميه حتى وصل إلى منطقة النبك، وهناك، حسب وصفه، سقطت سوريا ــ بمعنى الانهيار الذي عاشوه ــ و"تحرّرت" بالمفهوم السائد لدى البعض.
الضابط الذي التقيته يعيش اليوم رحلة صعبة تشبه هروبه عبر نهرٍ هادر، خوفاً من المساءلة أو الموت. قبل لحظة الانسحاب لم تتلقَ فرقة ماهر الأسد أي أوامر بالقتال، وحده الأمر بتسليم السلاح. ويفضح ضمير الجندي العبء الذي لا يزال يثقل صدره، قائلاً بحرقة: "نحن مو خونة وما سلمنا البلد... ما خلّونا نقاتل".
العبارة تختزل تناقضات الولاء في زمن الانقسام: ولاءٌ مشدودٌ بين الانتماء للقيادة والواجب القتالي، يخلطه الاصطفاف السياسي بعيداً عن مفهوم "الشعب السوري واحد". وهو شبحٌ يلاحق أولئك الذين أمّنوا حدود الطاعة ولم يعرفوا مخرجاً شريفاً من المأزق.
اليوم، يعيش "ر.ج" حالة من إعادة بناء الذات. بعد مرحلة عصيبة من الرفض والارتباك أمام الواقع الجديد، بات يبحث عن لقمة العيش في بيروت، يعمل عاملاً مؤقتاً في ورشة إصلاح منازل. لكن الحديث عن الرتب والساحات العسكرية تبدد أمام صوت الحياة اليومية، عائلته وأطفاله يذكرونه كل صباح بواجبه كأب لا كمقاتلٍ تُرك وحده على جبهة القرار.
قصة "ر.ج" ليست استثناءً، إنها شهادةٌ عابرةٌ تصوّر ما تفعله الحروب بالرجال: تحولهم من عناصر قوةٍ إلى بشرٍ يسعون للنجاة، يحملون على صدورهم ثقلَ الأسئلة الأخلاقية والاغتراب عن الذات. وفي النهاية، تبقى الكلمات التي نطق بها رافعةً أخيرةً: "لم نرغب برمي السلاح... كنا نريد القتال" ــ جملةٌ تحتوي على غضبٍ، حسرةٍ، ورغبةٍ في استعادة كرامة ضائعة.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث