المقاومة... إلى أين؟

محمد غملوش السبت 2025/10/11
كتائب القسام (Getty).jpg
رغم تحولات الشرق الأوسط.. تبقى فكرة المقاومة أكثر إلحاحاً (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

"حين يُصبح الاستعمار بنيةً في الوجود، فإن المقاومة تُصبح بديهية الوجود"، فرانز فانون.
رغم التحولات العاصفة التي يشهدها الشرق الأوسط، من انهيارات سياسية إلى تطبيع علني، تبقى فكرة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فحين تخلّت أنظمة عربية – كانت يومًا تتغنى بفلسطين – عن القضية، واتجه بعضها إلى ما قد يوصفُ بالتواطؤ مع العدو نفسه، وأصبح النظام يُعنى بالفرد الحاكم لا بما يحكُم، يُصبح من العبث الحديث عن عدالة دولية أو تضامن عربي. بل إن هذا الواقع يُحتم طرح السؤال الأخطر: ماذا لو لم تعد هناك مقاومة؟ تبدو المقاومة كأنها آخر ما تبقى من الكرامة، وآخر جدار يقف أمام مشروع إسرائيلي يسعى لإنهاء الوجود الفلسطيني وفرض وقائع الاستعمار كأمر طبيعي.
منذ أكثر من سبعة عقود، بقي المشروع الصهيوني في فلسطين نموذجًا استعماريًا نادرًا في وقاحته وتوسعه، ومع ذلك لم تتبلور بعد مقاومة عربية جامعة ومستمرة، قادرة على تهديد هذا الكيان بوجوده. وحتى الحركات التي نهضت بمسؤولية القتال، وجدت نفسها محاصرة لا من قبل العدو فقط، بل من أنظمتها "الشقيقة". ومع أن المعركة تبدو اليوم أكثر تعقيدًا، إلا أن الغياب العربي الرسمي لا يعني نهاية القضية، بل بداية مرحلة جديدة من المقاومة القادرة على تجاوز الأنظمة وخطاباتها الميتة.


من الانتصار الرمزي إلى المأزق: ضرورة المراجعة الجذرية
خلال السنوات التي سبقت عام 2006، شكّل حزب الله في لبنان نموذجًا متقدمًا لحركات المقاومة في المنطقة. فقد نجح في تحويل حركة مقاومة إلى بنية عسكرية-أمنية منظمة، استطاعت أن تُحرج إسرائيل وتكسر صورتها الردعية في معركة تموز/يوليو 2006. غير أن الإشكالية الكبرى بدأت بعد ذلك الانتصار الرمزي، إذ أُصيب الحزب – ومن ورائه حركات مقاومة أخرى – بنوع من الجمود الاستراتيجي، واستُهلكت أدوات المقاومة في المعارك السياسية الداخلية، وفُقدت البوصلة التي تربط بين المشروع التحرري والمشروع الوطني.
من هنا، فإن أي مشروع مقاوم حقيقي لا يمكن أن يكتفي بالاستمرار ضمن المعادلات القديمة، بل يجب أن يعيد صياغة رؤيته، من حيث الهيكلة، وطرق التمويل، والعلاقات الإقليمية، ومستوى الانفتاح الشعبي. لا بد من مراجعة نقدية صادقة، تعترف بالثغرات، وتخرج من منطق تبرير الهزائم، وتستثمر خبرات السنين في بناء قوة ردع حقيقية لا تستنزف ذاتها في السياسات المحلية، بل تُعد العدة للمعركة الكبرى.
من الصراع الإقليمي إلى الحسابات الاستراتيجية: إيران والعقدة الإسرائيلية
رغم كل ما فعلته إسرائيل، إلا أنها فشلت في تحقيق هدفها الأكبر والأخطر: إسقاط النظام في إيران. فمنذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، تموضعت طهران كعدو استراتيجي دائم للمشروع الصهيوني. ورغم العقوبات، والضربات، والتخريب الداخلي، لم تستطع تل أبيب – ومعها واشنطن – أن تُركع إيران أو تغيّر بوصلتها الإقليمية. هذا الفشل الاستراتيجي يعيد صياغة التوازنات في المنطقة: إذا كانت إيران قد صمدت، فإنها تملك الآن فرصة لإعادة هيكلة محور المقاومة وتمويله بشكل مختلف وأكثر فاعلية.
وبينما يُعيد حزب الله ترتيب صفوفه – بحسب مصادر استخبارية غربية تحدثت في تقارير متعددة مثل تقرير معهد "راند" (RAND Corporation) وتقييمات استخباراتية منشورة في "جيروزاليم بوست" – فإن اليمن يُدخل لاعبًا جديدًا إلى المعادلة: أنصار الله (الحوثيون) الذين انتقلوا من حركة محلية إلى فاعل إقليمي يهدد الملاحة العالمية ويُشاغل إسرائيل في خاصرتها البحرية. ومع تمسك حزب الله بسلاحه، تتشكل ملامح جبهة إقليمية قد لا تكون مثالية، لكنها تمتلك زمام المبادرة الميدانية.


تبدّل المشهد العالمي: حين تتصحح الرواية
من التحولات اللافتة التي يصعب تجاهلها اليوم، هو تبدّل المشهد العالمي حيال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فإسرائيل، التي طالما احتكرت رواية "الضحية" في الإعلام الغربي، بدأت تفقد شرعيتها الأخلاقية أمام الرأي العام الدولي، وخصوصًا بعد حربها المدمّرة على غزة. فالمجازر العلنية، والاستهانة بالحياة الإنسانية، وجرائم الإبادة الموثقة بالصوت والصورة، جعلت الصورة النمطية لإسرائيل كـ"ديمقراطية محاصَرة" تنهار أمام ملايين المتابعين في العالم.
الإحصاءات الأخيرة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، بحسب استطلاعات مؤسسات مثل Gallup وPew Research Center، تكشف عن تحول غير مسبوق في الرأي العام، خصوصًا بين الأجيال الشابة. ففي أميركا مثلًا، أظهرت تقارير أن ما يقارب نصف الشباب الأميركي باتوا يؤيدون الفلسطينيين أو يعارضون الحرب الإسرائيلية، مقارنةً بنسب ضئيلة جدًا قبل عقد واحد فقط. أما في أوروبا، فقد شهدنا مظاهرات مليونية في لندن، وباريس، ومدريد، وبرلين، وهي مظاهرات لم تخرج فقط دفاعًا عن غزة، بل رفضًا لبنية الاحتلال الإسرائيلي ذاته.
هذا التبدل يفتح أفقًا جديدًا لحركات المقاومة، إذ لم تعد محاصَرة كما في السابق داخل إطار العزلة الدولية، بل بات لها احتضان شعبي عالمي متنامٍ. وهذا الغطاء المعنوي لا يمكن الاستهانة به، لأنه يضرب في عمق الركيزة الدعائية التي اعتمدتها إسرائيل لعقود. ومع الانكشاف المتزايد لطبيعة المشروع الصهيوني، فإن المقاومة تجد اليوم مساحات أوسع لتبرير مشروعها على المستوى العالمي، ليس فقط كحالة تحرر وطنية، بل كحركة مواجهة ضد استعمار عنصري يهدد القيم الإنسانية ذاتها.


ما دامت إسرائيل... فالمقاومة ضرورة وجودية
إسرائيل، في جوهرها، ليست دولة طبيعية، بل قوة استعمارية توسعية مجرّدة من أي التزام أخلاقي أو قانوني. والجرائم التي ارتكبتها – خصوصًا في غزة – أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن هذا الكيان لا يُردع إلا بالقوة. أما الحديث عن القانون الدولي وحقوق الإنسان، فقد صار مادة للتهكم، بعدما ثبت فشل النظام العالمي – وتحديدًا مجلس الأمن الذي تُسيطر عليه واشنطن – في حماية المدنيين أو محاسبة مجرمي الحرب.
من هنا، لا يمكن أن يكون خيار المقاومة ترفًا سياسيًا أو تكتيكًا مؤقتًا، بل ضرورة وجودية ما دام هذا الكيان قائمًا على النكبة والقتل والاحتلال. المقاومة ليست بديلًا عن السلام، لكنها الشرط الوحيد لمنع الإبادة، ولإعادة التوازن إلى معادلة مائلة بالكامل لصالح قوة لا تؤمن بشيء سوى تفوقها العنصري.
المقاومة ليست خيارًا، بل قدرًا. وهي، في هذا الزمن العربي البائس، الأمل الأخير في استعادة المعنى. قد تختلف أدواتها وتتحول تحالفاتها، لكنها ما دامت متجذرة في الأرض، ومتصلة بشعوبها، فستبقى قادرة على فرض حضورها، حتى في أصعب الظروف. أما إسرائيل، فإنها – رغم تفوقها التكنولوجي والعسكري – لا تزال عاجزة عن تطويع إرادة الشعوب. ولهذا، فإن السؤال "إلى أين؟" لا يُجاب عليه بالخرائط الجيوسياسية، بل بالثبات على الحق، والاعتراف بضرورة التغيير، واستمرار المواجهة.
فلا سلام مع استعمار، ولا كرامة بلا مقاومته، وهذا ما لم تفهمه غالبية الأنظمة العربية إلى اليوم.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث