أدّى سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، وما تبعه من انهيار شامل للمؤسسات القضائية الرسمية، إلى فراغ كبير عطّل قدرة الدولة الجديدة على إدارة العدالة الانتقالية أو جعلها شديدة التسييس في بعض المناطق، لا سيما وأن قد المحاكم المركزية المرتبطة بالنظام السابق فقدت مصداقيتها، وغدت العديد من الفروع المحلية للجهاز القضائي مشلولة أو منحلّة تماماً.
وفي هذا الفراغ، برزت سلطات هجينة تمثّلت في فاعلين قضائيين ضمن مسار يمكننا تسميته العدالة ما دون "None State Justice" مثل الفصائل المحلية السابقة، والمجالس الأهلية، ومجموعة نشطاء سوريون مهتمون بأرشيف الثورة السورية، أدى هذا إلى تأسيس أطر قضائية متفاوتة الشرعية وغير متجانسة في إجراءات وأساليب المحاسبة. وغالباً ما جاءت هذه المنظومة العدلية الارتجالية عشوائية الطابع، تصدر أحكاماً تعكس موازين القوة على الأرض أكثر مما تعكس مبادئ العدالة والإجراءات الواجبة.
وبالتوازي مع ذلك، تعزز شكل جديد من القضاء في الفضاء الرقمي، أقرب إلى محاكم، حيث تقمّص ناشطون ومؤثرون أدوار قضاة غير رسميين، يعقدون محاكمات على منصات مثل "فايسبوك" أو "تويتر"، يفضحون فيها فلول النظام السابق، والمتسلقين على الثورة السورية، والمتنفعين بشكل او بآخر من مناصبهم التي كانوا فيها، و بالتالي كانت إجراءات الإلغاء والإقصاء من خطوات إعادة الإعمار واجبة بحق هؤلاء المتسلقين والذين يتم فضحهم بالدليل عبر هؤلاء الناشطين. وعلى مستوى آخر، ظهرت فئة من الناشطين الذين استغلوا غياب قضاء حقيقي وأصبحوا يوجّهون من خلال حساباتهم الاتهامات، ويمارسون التشهير، ويصدرون أحكاماً مبنية على منافع وآراء شخصية لا تعبر عن رأي الشارع. وهكذا، أصبح القضاء في سوريا ما بعد النظام يتجاوز الدولة، ويعمل في فضاءات مرتجلة ولا مركزية، آخذة في الاتساع بشكل متزايد داخل العالم الرقمي.
العدالة المجزأة
ظلّ دور "القضاة" ما دون الدولة سمة بارزة في مشهد العدالة المجزأ؛ فقد ورثت بعض الفصائل السابقة أو القوى المحلية سلطات ميدانية مكّنتها من إنشاء محاكم شرعية أو آليات للعدالة العسكرية والمجتمعية، استخدمتها كأدوات للسيطرة وضبط المجتمع، تبدأ من المحاكمات العشائرية و"العَطْوات" و مجالس الصلح كما في القنيطرة وريف دمشق الغربي حيث تقام دعوات شبه أسبوعية لحل الخلافات بين عائلات وأفراد متناحرين بعيداً عن سلطة الدولة والقضاء الفعلي، بحضور عشائري محلي.
وفي المقابل، تقدّم ناشطون ومؤسسات من المجتمع المدني لملء الفراغ الذي خلّفه انهيار الجهاز القضائي، فابتكروا آليات لحل النزاعات، وتولت المجالس المحلية دور الوساطة في الخلافات وأشرفت على توزيع المساعدات، مما منحها سلطة شبه قضائية. ومع تراجع سلطة السلاح في بعض المناطق، لم يختفِ هذا النمط، بل وجد امتداداً جديداً في "محاكم المؤثرين"، حيث يمارس ناشطون وشخصيات عامة سلطة قضائية غير رسمية عبر المنصات الرقمية. وبرغم أن هذه الأحكام لا تحمل أي صفة إلزامية قانونية، إلا أنها تترك تبعات ثقيلة تتراوح بين الإضرار بالسمعة والإقصاء السياسي وربما تصل إلى التجريد من الحقوق المدنية والوظيفية، وقد تصل أحياناً إلى تعريض الأفراد لمخاطر جسدية مباشرة. وبهذا غدا المؤثرون الرقميون امتداداً للسلطات غير الدولتية السابقة، يعيدون إنتاج ثقافة العدالة غير الرسمية خارج الأطر القانونية التي تحاول الدولة الجديدة إرساءها.
القضاء في الفضاء الرقمي
مع بروز مجتمع سوري جديد يبحث عن أدوات للمساءلة بعد سقوط النظام، انتقلت مساحة كبيرة من العدالة إلى الفضاء الرقمي، خصوصاً في أوساط الجاليات في الخارج؛ وتحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى محاكم للرأي العام، حيث تُطرح الاتهامات وتُناقش وتُضخّم، ويلعب جمهور الإنترنت دور "هيئة المحلفين" بشكل جماعي. وعلى خلاف المحاكم الرسمية الناشئة، لا تعتمد هذه المحاكمات الرقمية على السجن أو العقوبات المادية، بل ترتكز على العقوبات الرمزية مثل التشهير العلني، وتدمير السمعة، والإقصاء الاجتماعي، ووصم الأفراد بالخيانة أو الفساد أو التواطؤ مع نظام الأسد . وما يميز هذا النمط هو طابعه العابر للحدود؛ فبينما تسعى الدولة السورية الجديدة لتأسيس سلطة قضائية مقيدة بجغرافيا السيادة، تعبر المحاكم الرقمية الحدود بسلاسة، مستهدفة السوريين في الداخل والشتات على حد سواء. وبهذا تمدّ العدالة الشبكية نطاقها إلى ما وراء حدود الدولة الناشئة، وتعيد تشكيل العلاقة بين المساءلة والمعايير المجتمعية وموازين القوة في الفضاء السوري؛ مع تقديم خلاف حول ماهية حرية التعبير وماهية القضاء المضاد لهذه الحملات التي تستهدف أشخاصاً معينين.
تقدّم الحالة السورية بعد سقوط النظام مثالاً مباشراً للنقاشات النظرية حول التعددية القانونية في المراحل الانتقالية. فهي تُظهر كيف يمكن لأنظمة قضائية متداخلة ومتعددة، كالقانون الرسمي الجاري بناؤه، وبقايا محاكم الفصائل، والوساطات العرفية، والمعايير الرقمية ومعايير حرية الاعلام، أن تتعايش أو تتنافس أو تُقوّض بعضها البعض. ومن منظور سوسيولوجي، يمكن النظر إلى المحاكمات الرقمية التي يقيمها النشطاء والمؤثرون كنوع من الريادة الأخلاقية، حيث يسعى الفاعلون الاجتماعيون إلى احتكار سلطة تعريف الانحراف وتحديد من ينتمي إلى الجماعة الأخلاقية. وفي الوقت نفسه، تبرز هذه الممارسات شكلاً جديداً من العدالة ما بعد السيادة، إذ يُعاد تصور العدالة في ظل تفكك السلطة وتعدد مراكزها، وينتج عن ذلك ما يمكن وصفه بـ"القضاء بلا دولة"، وهو فضاء هجين تتداخل فيه الحدود بين القانون والأخلاق والصراع السياسي، ما يعقّد الفهم التقليدي للشرعية والإجراءات الواجبة في المرحلة الانتقالية.
تثير هذه الديناميات أسئلة محورية حول طبيعة القضاء في مرحلة ما بعد النظام، وأسئلة من قبل هل تُعدّ المحاكمات الرقمية استمراراً للمحاكم غير الدولتية التي عرفتها الحرب، وقد انتقلت الآن إلى الفضاء الإلكتروني والشتات؟ أم أنها تمثل شكلاً جديداً من المساءلة يسدّ الفراغ الذي تركه ضعف المؤسسات، لكنه يقوّض في الوقت نفسه فكرة الإجراءات القانونية الواجبة؟ وكيف ستؤثر هذه الممارسات على مسار العدالة الانتقالية؛ وهل ستساهم في ترسيخ ثقافة المحاسبة التي قد تدعم المصالحة، أم أنها ستعيد إنتاج الانقسامات وانعدام الثقة؟ ما يتضح هو بروز منطقة رمادية بين القانون الرسمي الذي تحاول الدولة الجديدة تأسيسه، والقوانين غير الرسمية، وما يمكن تسميته بالقانون الشبكي، وهو نظام من العقوبات الأخلاقية والسياسية يشبه العدالة لكنه يفتقر إلى البنية المؤسسية. في هذه المنطقة يكمن في آن واحد إمكان تعزيز المساءلة الشعبية وخطر تكريس عدالة غوغائية وأهوائية قد تهدد فرص بناء دولة قانون في سوريا ما بعد الأسد.
سؤال الشرعية
لم يعد يقتصر النقاش حول الشرعية على مؤسسات القضاء الناشئة، بل امتد ليشمل شرعية أنماط المحاسبة الشعبية التي يمارسها بعض النشطاء السوريين عبر الفضاء الرقمي، لا سيما بعد أن تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات علنية لفضح فلول النظام ورموزه، عبر إعادة نشر ماضيهم، وكشف ارتباطاتهم، وتسليط الضوء على أدوارهم في منظومة القمع. هنا لم يعد السؤال محصوراً فيما إذا كان يحق للدولة وحدها أن تحتكر القضاء، بل في مدى مشروعية هذه الممارسات التي تقوم على التشهير والرقابة الأخلاقية باعتبارها شكلاً من أشكال المحاسبة الشعبية. وبالرغم من أن هذه الممارسات لا تملك قوة إلزامية قانونية، إلا أنها تستمد مشروعيتها من كونها أداة لفضح الماضي وكسر ثقافة الإفلات من العقاب أو التحايل او سياسة "مسح المنشورات وعفا الله عما مضى". تكمن المعضلة اليوم في كيفية الموازنة بين السماح بفضح وتعرية المتورطين كجزء من مسار العدالة الانتقالية، وبين وضع ضوابط تمنع تحوّل التشهير إلى أداة انتقامية أو عدالة غوغائية تقوّض ثقة السوريين بمسار الدولة القضائي الوليد.
رغم أولوية تقنين العدالة عبر مؤسسات رسمية، ما زالت بعض الآليات المحلية تتمتّع بشرعية اجتماعية مصدرها القرب من الناس وسرعة الاستجابة لاحتياجاتهم. يتطلّب ذلك من السلطة الانتقالية مقاربة مزدوجة تتضمن الاعتراف بوجود هذا الرصيد المحلي حين يخدم السلم الأهلي، مع ضبطه قانونياً عبر تسجيله، وتأهيل كوادره، وتوحيد نماذجه الإجرائية، وإتاحة مسارات طعن واضحة. وفي الفضاء الرقمي، تستمر محاكم المؤثرين في إصدار أحكام معنوية، ما يفرض إطلاق مدوّنة سلوك عامة للمساءلة الرقمية، تتضمن قواعد للنشر المسؤول، وحقوق الرد، وآليات وساطة مجتمعية، تجنباً لتحويل الأخلاق العامة إلى أداة لعقوبات انتقائية تُجهض بناء الثقة بالمؤسسات.
نموذج العدالة الانتقالية الرسمي
في المرحلة الجديدة، لم تعد ممارسات العدالة ما دون الدولة أمراً واقعاً فقط، بل أصبحت عنصراً يجب تقويمه ضمن مسار العدالة الانتقالية، ويمكن للجنة حقيقة وطنية مستقلة، تدعمها خبرة دولية، أن تُصنّف أنماط القضاء الموازي وتوثّق ضحاياه وتأثيراته، وتحدّد ما يصلح للإدماج وما يستوجب الإيقاف عنه من الطرفين المعنيين (الأطراف الموالية للحكومة والداعمة لمسار فضح الفلول؛ والأطراف المعارضة للحكومة والداعمة لمسار فضح المنتهكين). كما أن إنشاء غرف قضائية هجينة (قضاة وطنيون ودوليون) للنظر في الجرائم الأشدّ خطورة، يوفّر معياراً مرجعياً لحقوق المتقاضين والإجراءات الواجبة، ويحدّ من تغوّل المحاكمات الرقمية. ويظلّ معيار القانون الدولي لحقوق الإنسان؛ الحق في المحاكمة العادلة، وافتراض البراءة، وحق الدفاع؛ هو البوصلة التي يجب أن يُقاس بها كل فعل قضائي خلال الانتقال.
ضمن رؤيته الأولية، طرح الرئيس الانتقالي أحمد الشرع مشروعاً للعدالة الانتقالية يقوم على ثلاثة محاور متوازية. الأول هو الحقيقة عبر لجنة مستقلة تُوثّق الانتهاكات من جميع الأطراف (والأهم من طرف مجرمي نظام الأسد وشبيحته) وتُتيح الوصول العام للبيانات مع حماية الخصوصية، والثاني هو المساءلة عبر بنية قضائية هجينة تُحاكم الجرائم الجسيمة، وتؤسّس دوائر مختصة للتعويضات وردّ الحقوق وتقييم الخسائر، بينما الثالث هو المصالحة عبر مسارات محلية منظّمة بإشراف قضائي واجتماعي، تتضمّن الاعتذار العلني، وجبر الضرر، وإعادة الإدماج. ويمنح المشروع دوراً محورياً للمجتمع المدني والشتات وخبرات النقابات المهنية، مع جدول زمني واضح وإطار تشريعي انتقالي يضمن عدم الإفلات من العقاب، ويمنع في الوقت نفسه الانزلاق إلى انتقام أهلي أو عدالة غوغائية.
من المفارقة في أنّ بعض آليات العدالة من أسفل "Bottom-to-top" التي ساعدت المجتمعات على الصمود زمن الانهيار قد تتحوّل، إن استمرّت بلا ضبط، إلى حجر عثرة أمام دولة القانون الوليدة. فكلما توسّعت مساحة الحكم الأخلاقي الشخصي الرقمي والجزاءات الرمزية خارج القضاء، تراجعت الثقة بالمسارات المؤسسية وبفكرة العدالة المحايدة. المطلوب إذن تحويل الشرعية الاجتماعية إلى شرعية قانونية؛ أي نقل ما هو نافع من الطاقة الاجتماعية إلى قنوات مؤسسية، مع تجريم التحريض والتشهير وتقويض الحق في الدفاع. وبدون هذا التحويل، سيبقى مسار العدالة الانتقالية في المنطقة الرمادية التي تُرضي غضب الضحايا مؤقتاً لكنها تُفشل بناء منظومة حقوقية مستدامة.
المخاطر المحتملة
في سياق دولة تسعى إلى ترميم شرعيتها القضائية، تتصاعد مخاطر القضاء الفردي على الشبكات. قانونياً، قد يواجه المؤثرون الذين يواصلون هذه الحملات علناً دعاوى جنائية ومدنية (تشهير، تحريض، انتهاك خصوصية، انتحال صفة أمنية أو قضائية)، مع إمكان إدراج بعض الأفعال ضمن انتهاكات حقوقية إن ترتّب عليها اضطهاد موجّه. أو تحريض على القتل أو التصفية. أمنياً، ربما ترتفع احتمالات الانتقام والدعاوى المضادّة والاستهداف من فاعلين سياسيين أو عسكريين متضررين. اجتماعياً ونفسياً؛ تآكل المصداقية سريعاً عند ظهور الانتقائية أو الخصومات الشخصية، ويتهدّد الفاعلون بالإنهاك والعزلة. أخلاقياً وسياسياً؛ يرسّخ التشهير والانتهاكات الرمزية انقسامات ما بعد النزاع، وقد يقود إلى استبعاد أصحاب هذه الممارسات من مسارات العدالة الانتقالية الرسمية باعتبارهم عناصر ممانعة لبناء الثقة ويمارس بحقهم أنفسهم الإقصاء لسد ذريعة التجييش الطائفي والمناطقي والشخصي.
ويبقى الحلّ من وجهة نظر أكاديمية وواقعية، الانتقال من التحكيم الأخلاقي المفتوح إلى الإبلاغ المسؤول، وتمكين قنوات الشكوى والحماية القانونية، وإشراك المؤثرين في برامج تدريب على النشر الآمن وأخلاقيات العدالة الانتقالية. حتى وإن نجحت بعض البلاغات مثلاً في كف يدّ بعض المترشحين لمجلس الشعب السوري وإقصائهم وفق دلائل متعلقة بتاريخهم "التشبيحي" مع نظام الأسد؛ إلا أن المهم هو حماية الناشطين وتأهيلهم وإدماجهم ضمن مسار العدالة الانتقالية المؤسساتي.
