إعلان وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بأن بلاده غير مُتمسِّكة ببقاء قواتها في سوريا، والأمر خاضع لتفاهمات مع حكومة دمشق، ومع القوى المعنية الأخرى، كما قال. وإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإمكانية التعاون مع ايران وفق حسابات جديدة، وشكره لمصر ولقطر ولتركيا؛ يؤكدان مشهدية التغيير الهائل الذي حصل في الشرق الأوسط. وقد توضَّحت معالم هذا التغيير بعد توقيع اتفاقية وقف اطلاق النار في قطاع، في نفس اليوم الذي حصلت فيه عملية "طوفان الأقصى" وبدأت معها الحرب العدوانية الإسرائيلية قبل سنتين بالتمام والكمال.
الخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط تبدَّلت على شاكلة واسعة، فانكفأت ايران وحلفاؤها (أو أذرعها) عن الساحة في سوريا ولبنان وفلسطين، أو تراجع تأثيرها إلى الحدود الدنيا، وبدا الزهد الروسي بالمنطقة واضحاً بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الثاني/ديسمبر 2024، وتفلَّتت إسرائيل من كل القيود، وتمادت في انفلاشها العدواني، إلى أن وصلت لأماكن بعيدة جداً عن حدودها، وارتكبت انتهاكات فظيعة، لم يسبق أن حصلت من قبل، وحاولت تغيير خريطة المنطقة – ولا تزال – لصالح مشاريع ميثولوجية وهمية لا يقبلها عقل، ولا يُقرها أي منطقة، كحكاية إقامة إسرائيل الكبرى على سبيل المثال.
لكن البارز في التغييرات الهائلة التي تحدُث؛ أن تأثير إسرائيل السياسي تراجع نسبياً في المنطقة برُغم تطور آلتها العسكرية الفتاكة، وهي فشلت في ترويج نفسها كشريك وازن في المعادلات السياسية وفي مساحات النفوذ، لأن ارتكاباتها الإجرامية، ورفضها لكل مبادرات التسوية، خصوصاً "حلّ الدولتين"، أبعدت عنها الدول التي كانت على استعداد للتطبيع معها، وللتعاون في إطار التفاهُم "الإبراهيمي" واقتصر مناصروها حالياً على مجموعات مُنعزلة ومحدودة ليس لهم عزوة مؤثرة في محيطهم، يستطيعون المشاغبة على بعض التفاهمات، ولكنهم لا يوفرون أرضية مقبولة لأي حل.
محورية الاستقطاب الجديد في المنطقة العربية تحوَّلت إلى مكانٍ آخر، برغم تضحيات الشعب الفلسطيني الهائلة، وبرغم تنامي القدرة على العدوان عند إسرائيل المعزولة دولياً واقليمياً، وبرغم توافر عوامل المشاكسة عند إيران أيضاً وأيضاً. وفرضت الحيوية السعودية والمصرية والقطرية والإماراتية والتركية نفسها في المعادلة الجديدة، لا سيما بعد إعادة التموضع الأميركي الذي فُرض بقوة الوقائع، وبقدرة تأثير الرأي العام العالمي، وهذه العوامل أثبتت أن سياسية الهيمنة والتفرُّد والعدوان؛ لا تصنع حلولاً دائمة، ولا تبني توافقات "والسيف ليس أصدق من الكُتبِ" بالضرورة، على الدوام، وتجارب حرب الإبادة في غزة خيرُ دليلٍ على هذه المقاربة. فقد فشلت أعتى قوة عدوان على الأرض في طرد الشعب الفلسطيني خارج أرضه، رغم استخدام كافة الوسائل الوحشية لتحقيق ذلك، بينما التضحيات الهائلة التي قدمها هذا الشعب، ستُستثمر قيماً نضالية ومعنوية للتشبُّت بالحق.
غياب الصين نهائياً عن الساحة الشرق أوسطية، وعدم رغبة روسيا في لعِب دورٍ أكثر فاعلية، وتراجع قدرة تأثير ايران، والعزلة السياسية التي تحيط بإسرائيل؛ مبعثُ تأكيدٍ على انفراد القطب الأميركي بمسك أوراق التأثير على المنطقة. والبراغماتية النفعية الأميركية، لا يمكنها تجاهل المصالح المستقبلية العليا للبلاد. وهذه المصالح لا تكفيها حصرية الانحياز لإسرائيل، ولا التلاعب على التناقضات بين بعض الدول العربية وإيران، وهذه المقاربة التي اعتمدها الديمقراطيون، أعطت الأخيرة فرصة الانفلاش على مساحات كبيرة من المنطقة العربية، وأنتجت فوضىً هائلة، ولم توقف اندفاعة البرنامج النووي الإيراني.
عودة الحرارة إلى خطوط التواصل بين واشنطن والقاهرة؛ أحد أهم التغييرات التي حصلت في الأيام الأخيرة، ذلك أن التباين بينهما وصل إلى حدود مُتقدمة، كادت أن تدفع مصر إلى إشهار تبديل خياراتها المحورية، وهي بالفعل شاركت بالعرض العسكري الروسي في يوم النصر على الفاشية، بموسكو، وحضرت العرض العسكري الصيني وقمة مجموعة شنغهاي مطلع أيلول/سبتمبر الماضي، واعتذر رئيسها عبد الفتاح السيسي عن تلبية دعوة الرئيس دونالد ترامب لزيارة واشنطن مرتين. ولا يقلّ أهمية عن ذلك، شكر الرئيس ترامب لتركيا ولقطر على المساهمة في الوصول إلى خواتيم سعيدة للتسوية الغزاوية. وترافق موقف ترامب مع تأكيد سفيره في أنقرة ومبعوثه الخاص إلى سوريا ولبنان توم باراك؛ أن بلاده لا تعمل ضد تركيا، ودورها في سوريا يتمحور حول وحدة البلاد التي تؤيدها أنقرة.
الاتحاد الأوروبي ودوله الفاعلة – خصوصاً فرنسا وبريطانيا وألمانيا – يحاول الالتفاف على الاستفراد الأميركي من خلال الدعوة لتشكيل مجموعة تأثير دولية، وهذه الدول تبنَّت بالفعل عناوين المبادرة العربية للسلام التي تنطلق من حلّ الدولتين، وبطبيعة الحال فإن موقفها أقرب إلى مشاعر أبناء المنطقة العربية من الموقف الأميركي الذي رفض تبني هذا الحلّ إرضاءً لإسرائيل. لكن عوامل التأثير الجيوسياسية والجيوأمنية؛ لا تخدم الطموحات الأوروبية في الوقت الحاضر، ولكن الأوروبيين مع الشركاء العرب الفاعلين؛ قادرون على تعطيل أي خطة لإعادة رسم حدود الدول في المنطقة أو تقسيمها من جديد، ومنع إنهاء مفاعيل سايكس – بيكو.
