في زاوية تبدو هامشية على الخريطة، عند التقاء الحدود البولندية-الليتوانية، يتوارى شريط بري ضيق تحيطه الغابات والبحيرات، لا يتجاوز عرضه 65 إلى 100 كيلومتر. لكن هذا الامتداد الصغير المعروف بـ"ممر سووالكي"، تحول في السنوات الأخيرة إلى أكثر النقاط حساسية في الأمن الأوروبي، وإلى ما يشبه "خاصرة رخوة" لحلف شمال الأطلسي (ناتو). فالممر يفصل بين كالينينغراد الروسية، الحصن العسكري المليء بالصواريخ، وبين بيلاروسيا الحليف الأقرب لموسكو. بالنسبة للناتو، يشكل الممر شريان الحياة الذي يصل الحلف بدول البلطيق الثلاث: ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا. أما بالنسبة لروسيا، فهو فرصة لتعطيل هذا الاتصال، وإعادة صياغة ميزان القوة في القارة الأوروبية.
الجغرافيا التي تصوغ السياسة
تكمن خطورة الممر في جغرافيته وحدها. فمن الغرب تحاصره كالينينغراد، ذلك الجيب الروسي المعزول الذي يضم أسلحة نووية تكتيكية ومنظومات دفاع جوي متقدمة مثل الـ"S-400 " وصواريخ "إسكندر"، ومن الشرق تجثم بيلاروسيا التي تحولت منذ احتجاجات 2020، إلى قاعدة عمليات أمامية للقوات الروسية. وبذلك، فإن أي تحرك في الممر قد يعني اشتباكاً مزدوجاً مع موسكو ومينسك معاً.
البنية التحتية فيه محدودة: طريق "فيا بالتكا" السريع، وخط سكك حديد "وارسو فيلنيوس"، هما شريانا النقل البري الوحيدان تقريباً. أي ضربة أو تعطيل لهما، قد يشلّ قدرة الناتو على تعزيز قواته شمالاً. المفارقة أن الممر مكشوف بما يكفي لمرور القوات، لكنه ضيق إلى درجة أن أي إغلاق قصير الأمد يعزل البلطيق عن باقي الحلف.
كالينينغراد: حصن روسيا وخط ضعفها
كالينينغراد تمثل التناقض الأكبر في المعادلة. فمن منظور الكرملين، هي قاعدة استراتيجية على بحر البلطيق تؤمن قدرة على "منع الوصول" لقوات الناتو جواً وبحراً. لكنها في الوقت نفسه جيب معزول عن روسيا الأم، يعتمد على خطوط إمداد يمكن للناتو قطعها عبر "سووالكي". في حالة الحرب، قد يتحول الممر بسرعة من خنجر في خاصرة الحلف إلى كعب أخيل لموسكو. ولذلك، فإن ربط كالينينغراد ببيلاروسيا عبر الممر، هو حلم عسكري روسي قد يغيّر قواعد اللعبة، لكنه سيكون إعلاناً عن مواجهة شاملة مع الناتو.
بيلاروسيا الجناح الشرقي لموسكو
منذ انتخابات بيلاروسيا عام 2020، توثقت علاقة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. استضافت بيلاروسيا قوات روسية، تدريبات مشتركة، وحتى أنظمة نووية روسية تكتيكية. هذا التحول جعل شرق الممر جبهة مفتوحة، وحوّل بيلاروسيا من "دولة عازلة" إلى شريك مباشر لموسكو في أي مواجهة محتملة مع الناتو. أما بالنسبة للناتو، أي تحرك روسي في "سووالكي" يعني حساباً مزدوجاً مع قوتين في آن واحد، روسيا وبيلاروسيا.
الناتو بعد حرب أوكرانيا
قبل عام 2022، اكتفى الناتو بوجود عسكري رمزي على حدود البلطيق، فيما يعرف بـ"خط السلك الشائك"، عبر مجموعات قتالية صغيرة. لكن الغزو الروسي لأوكرانيا أعاد رسم الاستراتيجية. اليوم، يتبنى الحلف خطة "الدفاع الأمامي". ألمانيا أعلنت نشر لواء مدرع ألماني بشكل دائم في ليتوانيا، يضم نحو 5 ألاف جندي مع دبابات "ليوبارد" ومدفعية حديثة، بحيث يكتمل الانتشار بحلول عام 2027. كما تم رفع مستوى الوحدات القتالية العسكرية في لاتفيا وإستونيا إلى تشكيلات ألوية، مع تعزيز الدفاعات الجوية وقيادات متعددة الجنسيات. رسالة الناتو واضحة، أي محاولة روسية لإغلاق الممر ستكون باهظة الكلفة.
اللوجستيات العصب الخفي
لا تقتصر أهمية الدفاع عن ممر "سووالكي" على البعد العسكري وحده، بل تتجاوز ذلك إلى البنية التحتية واللوجستيات التي يعتمد عليها الناتو لضمان بقاء الممر مفتوحاً. ففي هذا السياق، برز مشروعان استراتيجيان من شأنهما تغيير المعادلة خلال السنوات المقبلة. الأول هو مشروع "سكة حديد بالتيكا"، الذي يربط العاصمة البولندية وارسو بعواصم دول البلطيق الثلاث، ما سيلغي العقبات المرتبطة باختلاف قياسات السكك الحديدية الموروثة من الحقبة السوفيتية، ويتيح حركة سلسة لنقل المدرعات والإمدادات العسكرية عند اكتماله المتوقع بحلول عام 2030.
أما الثاني فهو فصل دول البلطيق في شباط/فبراير 2025، عن شبكة الكهرباء الروسية البيلاروسية، وربطها مباشرة بالنظام الكهربائي الأوروبي، وهو تطور تاريخي يقلل من قدرة موسكو على استخدام الطاقة كسلاح سياسي ويعزز مرونة البنية التحتية في المنطقة. هذان المشروعان، إلى جانب تعزيز الطرق البرية والجسور والمستودعات، يوضحان أن معركة الدفاع عن "سووالكي" ليست فقط معركة دبابات وصواريخ، بل أيضاً معركة لوجستيات وقدرة على الصمود في وجه الأزمات.
الحرب الهجينة.. معركة المنطقة الرمادية
قد لا تشهد "سووالكي" معركة دبابات وصواريخ، بل حرباً "هجينة". موسكو جربت بالفعل أساليب كهذه عبر تدفقات المهاجرين على الحدود البولندية-الليتوانية منذ عام 2021، ما أدى إلى توترات سياسية واجتماعية داخل الناتو. كذلك، يمكن للهجمات الإلكترونية أن تشل السكك الحديدية أو الكهرباء، فيما تضيف الطائرات المسيّرة والاستطلاع الجوي، شعوراً دائماً بالتهديد لدول البلطيق. الهدف الروسي ليس الغزو المباشر، بل زرع الشكوك في قدرة الناتو على حماية أضعف نقاطه.
سيناريوهات محتملة
يرجح الخبراء أن مستقبل ممر "سووالكي" قد يتخذ مسارات متعددة، تتراوح بين الضغط المستمر بأساليب الحرب الهجينة، وبين المواجهة العسكرية المباشرة.
ففي السيناريو الأول، قد تلجأ موسكو إلى استخدام أدوات غير تقليدية مثل الهجمات الإلكترونية أو توجيه تدفقات المهاجرين وشلّ عمل المطارات بواسطة الطائرات المسيرة، بهدف استنزاف الناتو وزعزعة الثقة بقدرته على حماية الممر.
أما السيناريو الثاني، فيتعلق باحتمال تعطيل قصير الأمد عبر ضربات مدفعية أو صاروخية من كالينينغراد أو بيلاروسيا، تكفي لإغلاق الطرق وخطوط السكك الحديدية وتأخير وصول التعزيزات لعدة أيام.
وهناك أيضا سيناريو أكثر خطورة، يتمثل في عملية عسكرية واسعة تسعى من خلالها القوات الروسية والبيلاروسية إلى الاستيلاء على الممر وربط كالينينغراد ببيلاروسيا، وهو خيار يعني اندلاع مواجهة مباشرة وشاملة مع الناتو.
في المقابل، يراهن حلف الناتو على سيناريو رابع يتمثل في تعزيز وجوده العسكري واللوجستي بشكل يجعل الممر محصناً ومفتوحاً حتى تحت النيران، وهو الخيار الذي يهدف إلى ردع موسكو من التفكير أصلاً في إغلاقه.
السياسة داخل الناتو.. الانقسام والالتزام
حلف الناتو ليس كتلة صلبة. فدول الجنوب في الحلف تركز على البحر المتوسط والهجرة، بينما دول البلطيق تصرخ محذرة من الخطر الروسي. تركيا توازن بين مصالحها مع موسكو والحلف. ورغم ذلك، فإن قرار ألمانيا نشر لواء دائم في ليتوانيا يعكس تحولا استراتيجياً كبيراً في ثقافتها الدفاعية، بينما تضغط واشنطن على الأوروبيين لتولي نصيب أكبر من العبء. بالتالي قرار بقاء الممر مفتوحاً مرهون بقدر من الوحدة السياسية، لا يقل أهمية عن القوة العسكرية.
أي مواجهة حول ممر "سووالكي"، ستجري تحت سقف التهديد النووي. موسكو لمّحت مراراً وتكراراً إلى إمكانية استخدام أسلحة نووية تكتيكية لحماية "مصالحها الحيوية"، بينما يكرر الناتو أنه تحالف نووي أيضاً. كلا الطرفين لا يريد حرباً نووية، لكن التلويح بها يكفي لتقييد التحركات وجعل التصعيد أكثر خطورة.
ممر ضيق.. اختبار واسع
ممر "سووالكي" ليس مجرد خط على الخريطة، بل اختبار لمستقبل الأمن الأوروبي بأسره. بالنسبة لروسيا، هو ثغرة يمكن استغلالها لإرباك الناتو أو فرض وقائع جديدة. بالنسبة لناتو، هو الاختبار الأوضح لمصداقيته، هل يستطيع الحفاظ على تواصل بري مع دول البلطيق تحت التهديد؟
التحركات الأخيرة من تعزيز القوات الألمانية، إلى مشاريع تطوير البنية التحتية في دول البلطيق، إلى فك ارتباط البلطيق عن الشبكات الكهربائية الروسية، تكشف أن دول حلف الناتو تاخذ التحدي بجدية. لكن الواقع أن قطعة أرض بهذا الضيق، قد تحدد مصير قارة كاملة. إنها المفارقة الجيوسياسية لممر "سووالكي". فأصغر الفجوات قد تفتح أكبر الأزمات.
