الحق في أن يكون لديك عنوان.. ودورة مياه!

قطاع غزة
Getty
حجم الخط
مشاركة عبر

التقيت طوال رحلة عمري بعشرات من الجيران الفلسطينيين، كان أغلبهم يحتفظ بمفتاح بيته في فلسطين، وقبل أيام رأيت الرئيس الفلسطيني محمود عباس لدى مشاركته في مؤتمر "حل الدولتين"، الذي عُقد برعاية السعودية وفرنسا، وقد وضع دبوساً ذهبياً على هيئة مفتاح فلسطيني بات رمزاً للشتات، وعنواناً للعودة.

مفاتيح الشتات باتت إذن رمزية، لا حقيقية، بل إن حوادث ما بعد طوفان الأقصى، قد حرمت كثير من الفلسطينيين من مفاتيح الشتات، بما فيها تلك "الرمزية"، بعدما ضاعت ملامح الوطن، وباتت ذاكرة المكان عند فلسطينيي غزة، منزوعة المكان، مجهولة السمات، لا تحتمل بناء الذكريات، ولا تخزينها، ولا تسمح بتطوير روابط إنسانية مع جيران، أو أقارب، أو أبناء، فأنت تبيت في موقع لخيمة إيواء لك ولزوجتك وأطفالك، ثم تنتزعك غارات الموت الإسرائيلية، أو أوامر جنود الاحتلال، بإخلاء مكان خيمتك والتوجه جنوباً باتجاه رفح.

 

لم أعرف شعباً جرى سحل ذاكرته اليومية، مثل شعب غزة، ولم أَجِد إجابة تشفي صدري كل صباح، أين نام هؤلاء الأطفال؟!.. وأين استيقظوا؟!.. وبماذا يحلمون كل ليلة؟!.. وهل وجدوا في الصباح دورة مياه آدمية؟!.. وأين احتفظوا بثيابهم وحقائبهم؟! وماذا أفطروا؟! وماذا سيتناولون على الغداء؟!.. وأين سيتلقون تعليمهم؟!.. وكيف يمضون يومهم؟!.

كنت أستحي من نفسي، كلما رأيت شاباً فلسطينياً يقود عربة يجرها بغل أو حمار، وقد حمل فيها أسرة فلسطينية أو أكثر تتحرك إلى وجهة مجهولة باتجاه الجنوب غالباً، أو باتجاه الشمال أحياناً، فاليقين عند هؤلاء غائب، والاحتياجات البشرية العادية غائبة، بلا صنبور ولا دورة مياه، ولا مصادر كهرباء كافية، ولا مستشفيات، ولا عربات إسعاف لنقل المصابين، ولا حتى عربات لنقل الموتى، ولا مدافن لدفنهم.

كنت وما زلت أتساءل: هؤلاء الأطفال الذين لم يجدوا بيوتاً ولا مدارس ولا مستشفيات، وربما أيضاً فقدوا الأبوين أو أحدهما، كيف سينشأون، وكيف سيكونون في المستقبل، ماذا سيتعلمون في شتات الخيام المهترئة؟ هل نتوقع منهم أن ينشأوا كعلماء وأطباء أو حتى بشراً أسوياء؟!

 

أول ما يحتاجه كل إنسان في غزة الآن، هو أن يكون له عنوان، وأن يكون للعنوان باب ومفتاح، وأن يكون في العنوان دورة مياه وفراش وغطاء، وموقد وإناء..

هل رأيتم مقدار بساطة ما يحتاجه إنسان غزة في تلك اللحظة؟! وهل أدركتم حجم الصعاب عنده من أجل الوصول إلى عنوان وباب ومفتاح وفراش وغطاء ودورة مياه؟!..هذه الاحتياجات الملحة جداً، البسيطة جداً، هي التي قادت السياسة والسياسيين إلى منطقة "إحييني النهاردة، وموتني بكرة"، فتحت هذا الكم الهائل من المعاناة، يمكن بسهولة تسويق الحلول الوقتية، وتفعيلها، بثمن بخس في الغالب.

فرص العمل من أجل حلول أو تسويات نهائية، لصراع عميق الجذور، طويل الأمد، تبدو محدودة جداً، ما يروج لرهانات شراء الوقت، فتصبح الهدنة ممكنة، والسلام مستحيلاً.

 

كل الأطراف في الأزمة الراهنة، لديها مطلب استراتيجي (مستحيل)، فإسرائيل قد أفصحت خلال محطات ملتهبة في الأزمة الراهنة،عن تطلعها إلى بناء إسرائيل الكبرى التي تشمل مناطق من شمال السعودية وشمال سيناء وكل الاْردن وـجزاء من العراق وسوريا، وحماس تريد فلسطيناً من النهر إلى البحر، وهكذا.. فتصورات الحل أو التسوية حلقت في فضاءالأسطورة، ولم تدخل في منطقة الممكن بعد.

الأجواء الاحتفالية سواءً في إسرائيل أو في جوارها العربي، لا تعبّر عن حجم الإنجاز الذي حققته خطة الرئيس دونالد ترامب ذات العشرين بنداً، بمقدار ما تعكس مقدار اليأس المخيم على أطراف الازمة، فما تحقق حتى الآن هو مجرد هدنة تحتال إسرائيل لجعلها موقوتة، ريثما تتسلم أسراها وتعثر على رفات موتاها، ويحتال الفلسطينيون والعرب لإطالة أمدها.

التسوية لا تزال بعيدة، والحلول لا تزال غائبة أو غير أكيدة، لكن الأجواء الاحتفالية تخيم على الأطراف رغم ذلك، بالتمني لا بالحساب.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث