في الذكرى الثانية لـِ"طوفان الأقصى"، تبدو إسرائيل على أعتاب نهاية حرب غزة الطويلة، لكنها تواجه خريطة إقليمية يُعاد رسمها، فإيران التي شكّلت لعقود "حلقة النار" حول إسرائيل تضررت بشدة من الضربات الإسرائيلية، في حين تتقدم تركيا لتطرح نفسها قوة عسكرية– سياسية بديلة ضمن تحالف تدعمه واشنطن، ويشمل دولاً خليجية وإسلامية وسوريا بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.
حرب أنهكت صورة إسرائيل
وبالرغم من أن الحملة العسكرية الإسرائيلية أضرّت بقدرات "حماس" و"حزب الله"، وألحقت أضراراً بالبرنامج النووي الإيراني ومخزونه الصاروخي، فإنها خلّفت عشرات الآلاف من الشهداء المدنيين في غزة، وأثرت بعمق على صورة إسرائيل الدولية، فتراجعت موجة التضامن التي أعقبت "السابع من أكتوبر" أمام مشاهد الدمار، وبرزت تهديدات بمقاطعتها من شركاء أوروبيين على غرار العقوبات المفروضة على روسيا.
ومع تراجع النفوذ الإيراني، يتقدّم تحالف عربي– إسلامي مدعوم من واشنطن تقوده تركيا، وتلتحق به سوريا الجديدة. هذا التحالف لا يُنظر إليه بوصفه تهديداً وجودياً لإسرائيل، لكنَّ احتمال تحوّل سوريا إلى وكيل تركي على حدودها يثير قلق المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
ويرى الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تركيا مدخلاً أساسياً لمعالجة ملف غزة. وقال: "تركيا تملك القنوات مع حماس، ولديها ثقل عسكري وسياسي يجعلها جزءاً من الحل، لا المشكلة. نحن نعمل مع أنقرة والدوحة على صياغة اتفاق متوازن ينهي الحرب ويعيد الأسرى".
كما أكد مبعوثه الخاص إلى أنقرة، توم باراك، أن "الفكر التركي في بناء هيكلية أمنية إقليمية يستحق الدعم. أنقرة ليست مجرد طرف وسيط؛ بل ركيزة أساسية لأيّ استقرار طويل الأمد".
بين القلق والرهان
المؤسسة الأمنية الإسرائيلية منقسمة حيال الدور التركي. إذ قال مسؤول أمني رفيع لموقع "المونيتور": "نحن نرى كيف يسعى الأتراك إلى إنشاء قواعد وأذرع نفوذ ومواقع متقدمة في جميع أنحاء المنطقة، من ليبيا إلى سوريا وما وراءها".
وأضاف محذراً من صفقة التسليح المحتملة، "إذا مضت واشنطن في بيع قاذفات إف–35 لتركيا، فسوف نتخلى عن أفضلية استراتيجية كنا نتمتع بها لسنوات".
وكان وزير الخارجية الإسرائيلية إيلي كوهين قال لصحيفة "يديعوت أحرونوت" في 15 حزيران/ يونيو 2023، إن "الخلافات السياسية مع أنقرة لا تمنعنا من النظر إلى المستقبل، نعتقد أن وزير الخارجية التركية هاكان فيدان، أكثر براغماتية من أردوغان، وهذا يفتح نافذة للتفاهم".
ويتضاعف القلق الإسرائيلي مع انخراط أنقرة في الملف السوري، وقال مسؤول سياسي إسرائيلي لـِ"المونيتور" ، "نخشى أن تتحول سوريا إلى وكيل تركي على حدودنا. هذا يعني أن إيران خرجت من الباب لتدخل تركيا من النافذة".
وساطة متعثرة
في موازاة ذلك، تراهن إسرائيل على الضغط التركي–القطري لدفع "حماس" نحو قبول خطة ترامب، بعد أن لعب توم باراك دوراً في صياغة اتفاق خفض التصعيد مع دمشق، مع التركيز على إدماج الدروز والأكراد في ترتيبات "سوريا الانتقالية". أما في غزة، فكشفت تقارير عن محادثات غير مباشرة في شرم الشيخ بين إسرائيل وحماس، بوساطة أميركية– مصرية– قطرية، تتركز على تبادل الأسرى والانسحاب الإسرائيلي، لكنها تصطدم بفجوات كبيرة.
هكذا تجد إسرائيل نفسها مضطرة للتعامل مع تركيا ليس بوصفها خصماً بعيداً؛ بل بوصفها قوةً إقليمية متصاعدة على مسار التسوية. وفي الوقت الذي يثير فيه نفوذ أنقرة مخاوف أمنية من فقدان التفوق العسكري، فإن تقاربها مع ترامب يفتح أمام تل أبيب نافذة للاستثمار السياسي، في معادلة إقليمية تتجاوز طوفان الأقصى لتعيد رسم موازين القوى في الشرق الأوسط.
الرياض بين أنقرة وإسلام آباد
ولم تقتصر التغيرات الإقليمية بعد حرب غزة على إسرائيل وتركيا؛ بل شملت أيضاً علاقات السعودية مع قوىً إسلامية كبرى، إذ شهدت العلاقة بين الرياض وأنقرة تقارباً لافتاً خلال العامين الماضيين.
وجاءت هذه العودة التدريجية في ظل توافق الطرفين على إدارة ملفات إقليمية حساسة، أبرزها الأزمة السورية وإعادة الإعمار، إضافة إلى دور تركيا في الضغط على "حماس". ويترجم التقارب أيضاً في تنسيق اقتصادي وعسكري، مع محادثات حول استثمارات سعودية في الصناعات الدفاعية التركية.
كما تعززت العلاقة بين السعودية وباكستان، مع تعمق الشراكة الأمنية–الاقتصادية، خصوصاً في ضوء الحرب في غزة وانعكاساتها على العالم الإسلامي، وعادت إسلام آباد، التي توازن تقليدياً بين واشنطن وبكين، لتوطد علاقاتها مع الرياض في ملفات الطاقة والدفاع، في حين تدعم المملكة استقرار الحكومة الباكستانية الجديدة. هذا التقارب يفتح المجال أمام محور سعودي–تركي–باكستاني له تأثير متزايد في معادلات الشرق الأوسط، بما يوازي تراجع المحور الإيراني التقليدي.
الشرق الأوسط بعد "طوفان الأقصى"
وفي الوقت الذي تطوي فيه المنطقة عامين على "طوفان الأقصى"، تتضح ملامح شرق أوسط يُعاد تشكيله: إيران تتراجع، وتركيا تصعد بدعم أميركي، وإسرائيل تجد نفسها بين القلق والرهان. وفي خلفية المشهد، تتحرك السعودية لإعادة وصل ما انقطع مع أنقرة، وتعميق شراكاتها مع باكستان، في إشارة إلى اصطفاف إسلامي–عربي جديد لا يقوم على منطق المواجهة المباشرة مع إسرائيل؛ بل على معادلة النفوذ والمصالح.
وفي قلب هذه التحولات، يظل دور واشنطن، عبر إدارة ترامب، هو العامل الحاسم في هندسة التوازنات، في حين تبقى غزة الاختبار الأشد لمدى صلابة هذه المعادلة الإقليمية الوليدة.
