لم يحتاج المرشد الإيراني علي خامنئي سوى الى ثلاث تغريدات مقتضبة نُشرت على حسابه، بُعيد لقائه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، ليحدد الموقف الإيراني تجاه ما يجري في العراق، لكنها وضعت الآخير في زاوية حرجة تماماً.
وصل السوداني طهران قبل بضعة أيام حاملاً معه ملفات مهمة في الأمن والسياسة والاقتصاد. كان الرجل يمنّي النفس بتفهم إيراني، ربما يرتقى فيما بعد إلى مستوى الدعم، لحكومته وهذه الملفات التي أضحت شائكة وحساسة داخلياً وخارجياً، خصوصاً بعد الوضع الإقليمي والدولي الذي أفرزته الحرب في غزة وتداعيات طوفان الأقصى، مثل ملف حصر السلاح بيد الدولة، أهم هذه الملفات. فبغداد سعت لدور إيراني يساعدها في حسم هذا الملف، من خلال وقف دعمها لفصائل مسلحة عراقية مقربة منها، وإقناعها فيما بعد بالتماهي مع خطة الحكومة بحلّها.
تُعتبر هذه الفصائل جزءاً مما يسمى بمحور المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة. ولعبت دوراً بارزاً في الحرب على غزة وفي جنوب لبنان باستهدافها مصالح أميركية وإسرائيلية. لكنها ما لبثت أن وجدت نفسها في دائرة الاتهام الأميركية بوصفها أحد أذرع ايران المسلحة، وجزء من مشروع الفوضى الذي تقوده إيران في المنطقة، بحسب الرواية الأميركية والغربية.
تسبب هذا الأمر بوضع حكومة بغداد تحت ضغوطات باتت تطالبها بحل هذه الفصائل التي ترفض أية وصاية حكومية عليها.
وإذا كان السوداني قد لمس تفهماً من الرئيس الايراني خلال لقائهما، عندما اعتبر الأخير أن مواجهة الارهاب تتطلب مزيداً من "الذكاء والتعاون والحكمة بين البلدين"، فإن هذا التفاؤل تبدد تماماً بلقائه المرشد الاعلى.
أطلق المرشد بُعيد لقاءه السوداني ثلاثة تغريدات مثلت الموقف الايراني مما يجري في العراق، وتحديداً من هذا الملف.
ورغم أن المرشد لم يتحدث عن فصائل المقاومة، إلا أن حديثه عن الحشد الشعبي، كان مفاجئاً. فالحشد، باعتباره مؤسسة أمنية حكومية مرتبطة مباشرة بالقائد العام للقوات المسلحة العراقية، لم يكُن هو المعني من زيارة السوداني.
دعا المرشد رئيس الوزراء العراقي لوجوب "الحفاظ على الحشد وتعزيزه باعتباره يشكل أحد عناصر القوة في العراق". تصريحات شكلت علامة فارقة في هذا الاطار، وتسببت بإثارة أكثر من علامة استفهام عن الغاية التي ابتغاها المرشد في تغريدته هذه، والرسالة التي إراد إيصالها.
ورغم الجدل الكبير الذي يدور هنا في الداخل العراقي بضرورة التفريق بين الفصائل باعتبارها قوة خارج إطار الدولة العراقية، وبين الحشد باعتباره مؤسسة أمنية حكومية، الا أن هناك من يعتقد أن الحشد هو المظلة التي تحتمي بها هذه الفصائل. هذا الوصف تسبب ولا يزال بجدل كبير بين رافض وآخر مؤيد له.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تسببت تغريدة آخرى للمرشد بشأن التواجد العسكري الأميركي في العراق، حرجاً آخر لرئيس الوزراء.
وصف المرشد هذا التواجد المؤطر عراقياً وأميركياً باتفاقيات سياسية وأمنية، بأنه "احتلال غير قانوني ويجب التصدي له بجدية". وإزاء هذا التصريح، عبّر كثيرون عن خشيتهم من أن يتسبب هذا التصريح في خلق ارتدادات قد تكون سبباً بالإطاحة بمساعي رئيس الوزراء ومسعاه بحل الفصائل.
شكّل التواجد الأميركي في العراق ( الذي يقود التحالف الدولي الذي يحارب تنظيم داعش، والذي جاء إلى العراق بطلب حكومي عام 2014 لمحاربة التنظيم آنذاك)، خلال المرحلة الماضية التي أعقبت انتهاء الحرب ضد التنظيم، مشكلة كبيرة لحكومة السوداني، وقبلها حكومة مصطفى الكاظمي.
فهذه الفصائل لم تُخفِ موقفها المعادي لهذه القوات، وتمكنت خلال الفترة الماضية من تنفيذ العديد من الهجمات المسلحة التي طالت أماكن تواجدها ما تسبب بإلحاق خسائر بأفرادها وآلياتها.
اتهمت واشنطن طهران بالوقوف وراء هذه الهجمات من خلال ما تقدمه من دعم لهذه الفصائل. فإيران كانت دائما تعبر عن عدم ارتياحها لوجود قوات أميركية بالقرب من أراضيها. واعتبرت أن هذا التواجد يمثل تهديداً لها ولمصالحها.
هذا الموقف أحرج كثيراً حكومة السوداني التي وجدت نفسها بين فكي كماشة، حاولت خلاله السيطرة بأي طريقة على الموقف للحيلولة دون تحويل الأراضي العراقية إلى ساحة مواجهة مسلحة. وهكذا تمكنت حكومة بغداد بعد مباحثات طويلة مع واشنطن من عقد اتفاقية مع الطرف الأميركي تقضي بانسحاب هذه القوات بحلول شهر أيلول/سبتمبر 2025.
لكن تسارع الأحداث في سوريا بعد تغيير النظام، يدفع إلى القول إن بغداد قد تلجأ الى إعادة النظر بهذه الاتفاقية وأنها قد تطلب من واشنطن إبقاء قواتها في العراق الى ما بعد أيلول، لمواجهة اي تطورات يمكن أن تنشأ على حدودها المشتركة مع سوريا، والتي بدأت بعض هذه المناطق تشهد عودة ملحوظة لنشاط مجموعات تابعة للتنظيم.
ومع هكذا سيناريوهات، فإن وصف المرشد للقوات الأميركية في العراق بأنها "قوات محتلة وأن الواجب يتطلب التصدي لها بجدية"، قد يدفع هذه الفصائل المسلحة إلى رفض فكرة إلقاء السلاح، وهو تطور سيكون محرجاً للسوداني في حال حدوثه، وهو الذي أكد خلال زيارته لطهران، أن سياسة حكومته واضحة في هذا الإطار وأنها "تقوم على احتكار الدولة لاستخدام القوة وضمان سيادة القانون".
تصريحات المرشد دفعت البعض إلى التعبير عن اعتقادهم أن الهدف منها هو قطع الطريق أمام أي محاولات مستقبلية لاحتمال أن تقوم بغداد بإعادة النظر بالاتفاقية والطلب بتمديد التواجد العسكري الأميركي إلى ما بعد أيلول المقبل، بسبب ما قد تفرزه تطورات الأحداث على الأرض داخل سوريا.
كل هذه التطورات تدفع إلى القول إن محاولات السوداني في الحصول على مبتغاه من إيران في هذه الزيارة لم تنجح. هذا الأمر دفع البعض إلى القول إن حكومة السوداني باتت أمام خيارين لا ثالث لهما، إما بدء فك الارتباط مع ايران والمحور الذي تمثله وتقوده، أو البقاء ضمن هذا المجال. وهما خياران يتفق كثيرون أنهما يمثلان تحدياً لحكومة بغداد، لأن افضلهما سيكون مراً بل وقاسياً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها