العصيانان اللذان أطاحا بشار.. كيف تفاجأ الشرع بسقوطه؟ (3)

ماهر اسبر السبت 2025/09/27
GettyImages-2188827972.jpg
الشعب والقوى العسكرية تحركوا لإسقاط النظام البائد (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

الجولاني بقي متردداً أمام هذه التطورات المتسارعة، ووفق مصادر أنه قام بسؤال الأتراك عدة مرات لم يقدّموا له أي جوابٍ شافٍ، وبينما كان يؤكد لهم أن الأمور خرجت من يده، وأن الشعب والقوى العسكرية باتا يتحركان لإسقاط النظام، وأن جيش الأسد ينهار من تلقاء نفسه ولا يقاتل، أصبح كل من الأتراك والجولاني أمام ضرورة عاجلة لإعادة ضبط الموقف، وإعلان السيطرة مجدداً على هذه الموجة غير المنضبطة من اندفاع الفصائل المحلية والقوى الشعبية. وحين طلب الجولاني منهم التواصل مع الروس، تركوا الأمر معلقاً بقولهم: "دعنا ننتهي من الميدان أولاً، ثم بناءً على النتائج نقرر ما نفعل". وبينما كان يوازن حساباته، وصلت رسائل من درعا والسويداء تفيد باندلاع اشتباكات، واشتعال عدة جبهات، وتحرير نقاط، وهروب قوات النظام من نقاط أخرى من دون قتال. وبعد وصول أخبار هذه التحركات غير المنسَّقة بيومين فقط، تشكّلت غرفة عمليات الجنوب التي حملت اسم "غرفة فتح دمشق"، فيما قامت الفصائل في السويداء بتشكيل غرفة أخرى سُمّيت "معركة الحسم". وكانت هاتان الغرفتان أولى القوات التي دخلت دمشق، قبل وصول القوات القادمة من الشمال. ووفق مصادر مؤكّدة، فقد طلبت روسيا من أحمد العودة، قائد "غرفة فتح دمشق"، عبر اتصال مباشر، الانسحاب من دمشق قبل وصول قوات إدارة العمليات التي يقودها أحمد الشرع.


"هيئة تحرير الشام"
قبل عدة سنوات، حين خاضت "هيئة تحرير الشام" معاركها ضد فصائل الجيش الحر، وأنهت وجود العديد منها، التي كانت في معظمها قائمة على أسس مناطقية ومحلية، ثم أعادت دمج أعداد كبيرة من مقاتلي تلك الفصائل ضمن بنيتها العسكرية المركزية. بقيت هذه القوى متماسكة تحت سلطة "هيئة تحرير الشام"، ثم في فترة التحضير لعملية "ردع العدوان"، غير أنّ سقوط حلب شكّل لحظة فارقة بالنسبة لهذه القوات، إذ شهدت عملية "ردع العدوان" وإدارة عملياتها انهياراً جزئياً في بنيتها بعد حصول الفراغ العسكري، فتجمّعت عدة مجموعات عسكرية مجدداً على أسس مناطقية وانطلقت لتحرير مناطقها. من معرة النعمان إلى الأتارب وصولاً إلى سراقب وبعض أرياف حماة، اتفق مقاتلو كل منطقة وتقدّموا عسكرياً نحو بلداتهم التي كانت قد خلت تقريباً من قوات النظام عقب انهيار خطوطه الدفاعية الأساسية. وعلى الرغم من صدور أوامر متكررة من إدارة العمليات بالتوقف عن التقدم (بعضها رافقته تهديدات) فقد تداول المقاتلون في الميدان "أمراً آخر" غامض المصدر، يدعو إلى "التوسع إلى الحد الأقصى". وكان واضحاً أن هذا التوجيه لم يصدر عن القيادة المركزية لإدارة العمليات، بل كان نتاج قرارات اتخذها القادة الميدانيون أنفسهم، الذين رأوا أن اللحظة التاريخية سانحة لا ينبغي تفويتها، وأن المضي إلى النهاية أهم من أي حسابات سياسية، سواء للهيئة أو للدول الفاعلة في الشأن السوري، التي لم تعد قادرة على كبح اندفاعهم.


الشرارة الأولى
لقد كانت الشرارة الأولى في تجاوز أوامر عملية ردع العدوان بالتوقف عند خطوط التماس والاكتفاء بتثبيت نقاط اشتباك جديدة، هي مبادرة المقاتلين الذين كانوا سابقاً من فصائل الجيش الحر، أولئك الذين دمجتهم "جبهة النصرة" تحت قيادتها بعد أن قضت على فصائلهم، لكنهم لم يفقدوا صلتهم بمناطقهم ولا حنينهم لقراهم ومدنهم. هؤلاء لم ينظروا إلى المعركة كأرقام على خرائط أو مواقع في بيانات عسكرية، بل كبيوت غابوا عنها وعائلات مهجّرة في الخيام تنتظر العودة. وحين اعترض قادة إدارة العمليات على تقدمهم المنفرد، جاء جوابهم حاداً صريحاً: "نريد أن نعيد عوائلنا من الخيام إلى بيوتهم، ولن نتوقف قبل تحريرها".
وهكذا تحوّلت العملية من خطة مضبوطة إلى موجة متدفقة، كل مجموعة تعيد تنظيم نفسها وتتجه نحو منطقتها لتحريرها. كان المشهد أقرب إلى ثورة يقودها عصيان وتمرد ومواجهة عسكرية في جميع المناطق لتغيير الواقع الذي كان قائماً، حيث إن اجتماع هذه التحركات والدوافع الشعبية الغير مخطط لها بدا أقوى من أي التزام تنظيمي أو جسم قادر على ضبطه في "إدارة عمليات". 


انهيار النظام من الداخل
في الوقت نفسه، واجه النظام انهياراً داخلياً غير مسبوق، أغلب جنوده ألقوا أسلحتهم، لم يلتزموا بأوامر القيادة، ورفضوا القتال. بعض الضباط أعلنوا عصياناً صريحاً وفضّلوا تسليم أنفسهم بدلاً من المواجهة. كان هذا الانهيار حصيلة سنوات من القسوة والإذلال الممنهج الذي مارسه بشار الأسد على جنوده وضباطه، بعد أن ظن أن انتصاره قد صار نهائياً، فتمادى في إذلال حتى أقرب المحيطين به.
عاش هؤلاء الجنود وقادتهم أوضاعاً تلامس حدود المجاعة، طعام رديء لا يكفي لسد الرمق، ألبسة وتجهيزات معدومة، نقاط خدمة تفتقر لأبسط مقومات العيش الآدمي، بردٌ بلا تدفئة، وآليات بلا وقود. غالبيتهم مجنّدون قسراً، يعيشون في إذلالٍ مهولٍ وفراغٍ كامل وحياة بلا معنى، فيما عوائلهم غارقة في بؤس مضاعف بلا معيل ولا أفق. 
ومع سقوط جبهات حلب، بدت اللحظة أشبه بالشعرة التي قصمت ظهر "الأسد" انهارت قطعات عسكرية بعيدة مئات الكيلومترات، سُجّلت انسحابات عشوائية، إخلاءات مستعجلة، وفرار فردي وجماعي. التقط المدنيون إشارات الانهيار، فاندفعت مبادرات محلية بما تيسّر، وتقدّموا في عشرات المناطق في اللحظة نفسها. كان المشهد أقرب إلى جيش يتبخر (كما حدث مع الجيش العراقي عام 2003) لأن جنوده أدركوا في النهاية أن استمرارهم في القتال عبثي، وأنهم مجرد وقود لنظام لم يمنحهم سوى الإذلال ولم يتعامل معهم إلا كعبيد.
 

عصيان مزدوج
وهنا تكشّف المعنى العميق عن أن ما أسقط النظام لم يكن سلاح المهاجمين وحده، بل عصيان مزدوج جمع بين طرفين متناقضين ظاهرياً. فمن جهة كان هناك عصيان جنود بشار الأسد، الذين تخلّوا عن الدفاع عن نظامه وتمرّدوا على أوامر القتال، ومن جهة أخرى كان هناك عصيان جنود الجولاني، الذين رفضوا أوامره بالتوقف عند حدود معينة واستمروا في التوسع لتحرير مناطقهم. في لحظة تاريخية واحدة، تقاطع عصيان جنود بشار مع عصيان جنود الجولاني، هكذا سقط النظام بين عصيانين: عصيان فرضته قسوة الإذلال، وعصيان فرضه عدم الأنصياع لأحد والثورة على الجميع. وكانت النتيجة أن ما لم يُخطط له أحد، تحقق بشكل عفوي وبلا قيادة مركزية، ليعيد كتابة معادلة الحرب كلها.

 

نقاشات ونجاح أنقرة
بعد عدة نقاشات نجحت أنقرة في جسّ النبض لدى دول غربية، فبرز موقف بريطاني لافت يدعم تغيير الأسد، يذهب إلى أن إدماج العناصر الجهادية داخل مؤسسات الحكم المحلية وضبطهم داخل حدود دولهم أفضل من تركهم يمارسون جهادهم العابر للحدود. بوعدٍ بريطانى بمرافقة هذه الخطوة بحملة علاقات عامة لتسويقها أوربياً وأميركياً وحتى خليجياً، أعطت تركيا في نهاية المطاف وعدها لهيئة تحرير الشام بالمساعدة (وكان ذلك بعد 3 كانون الأول/ ديسمبر)، استجابةً منها لتطورات الميدان ولقلقها من استغلال قوات قسد للفراغ العسكري والأمني. تواصل الأتراك آنذاك مع الروس، وطرحوا عليهم سؤال حاسم: لماذا تتمسّكون ببشار الأسد الذي لم يفِ بوعوده لكم طوال أربعة عشر عاماً ولن يمنحكم شيئاً في المستقبل؟ كان هذا الموقف مكملاً للواقع بأعين الروس، وعودٌ لم تُنفَّذ، وتعامُلات متكررة أظهرت انعدام الثقة، وذلٌّ مُمارَس بحق قادة جيشه وحاضنته أدى إلى انهيار معنوي سريع في صفوف القوات، وانعدام الأمل بحصول أي مكسب من وجود بشار الأسد مستقبلاً بالحكم، هذا كله مهّد الأرضية أمام موسكو لإعادة النظر. وافق الروس أولاً، وبعد رفض وتردد إيراني، وافق الإثنان على فتح قنوات حوار بحثاً عن صيغة تحفظ مصالح الجميع في مرحلة ما بعد الأسد.

 

أوامر متأخرة
وعندها لم يعد ممكناً التردد، أصدر الجولاني أوامره متأخراً كمن يركب الموجة، وبدأت عمليات التقدم نحو دمشق في يوم 6 كانون الاول/ديسمبر. ولإيجاد المخارج للنظام وضمان الاستقرار بعدم حصول معارك كبيرة ومواجهات قد تؤدي لدمار العاصمة دمشق، دخلت الدوحة على الخط. ودعت لاجتماع حصل يوم 7 كانون الأول/ديسمبر، اجتمع فيه وزراء خارجية عدد من الدول العربية مع نظرائهم من الدول المشاركة في مسار أستانا، في فندق الشيراتون بالدوحة. حضر الاجتماع من الدول العربية وزراء خارجية كل من قطر، السعودية، الأردن، مصر، العراق. كما حضر الاجتماع من الدول المشاركة في مسار أستانة كل من تركيا، إيران، وروسيا، جاء الاتفاق مُركّزاً في نقاط معدودة صيغت على عجل:
ضمان تأمين البعثات الدبلوماسية ومقراتها، حماية المراقد الشيعية والمصالح الإيرانية، إبقاء وتأمين القواعد الروسية، فتح عهد جديد من العلاقات، ضبط سلوك الفصائل ومنع عمليات الانتقام أو الاقتتال الأهلي، الانتقال المنظم والسلس للسلطة والالتزام بالقرار 2254 في التحول السياسي، تأمين السلاح الكيماوي والأسلحة الاستراتيجية، وترتيبات أمنية لمرحلة ما بعد الأسد. 
يوم ليلة الثامن صدر القرار الروسي بموافقة إيرانية، أنهى تفويض الأسد لحكم سوريا إلى الأبد.
لا الأسد علم بشيء، ولا الشرع، حتى اللحظات الأخيرة.

لقراءة الجزء الأول من المقال اضغط هنا

لقراءة الجزء الثاني من المقال اضغط هنا

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث