الاتصال الهاتفي الأخير بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين؛ أضاف تعقيدات جديدة على المشهد الأوكراني، ولم يتمكن ترامب خلال ساعة كاملة من إقناع نظيره الروسي تقديم تنازلات تحفظ ماء الوجه للرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، الذي ينتظر الخروج من ساحة المعركة، من دون أن يُسجل عليه أنه هُزِم هزيمة مُدوّية، تاركاً وراءه خسائر سياسية وميدانية كبيرة، يُضاف إليها عدد هائل من الضحايا المدنيين والعسكريين.
ترامب مُستعجل لوقف الحرب في أوكرانيا، لأنها تستنزف موارد مالية وحربية من بلاده، وتُرهق حلف شمالي الأطلسي "الناتو" الذي عليه أن يتطلع الى الزاوية الأكثر خطراً بالنسبة لهم، وهي شرق آسيا، وتحديداً الصين التي تُحقِّق خطوات وازنة الى الأمام في المجالات التكنولوجية والسيبرانية والدفاعية والصناعية، والنزيف الأوكراني الذي تحمَّست لفتحه إدارة الرئيس السابق جو بايدن في العام 2022، لإرهاق أوروبا وإعادة إخضاعها تحت المظلَّة الأميركية؛ أصبح مصدر قلق لإدارة الرئيس ترامب، لأن الحرب أعادت تثبيت وحدة الموقف في أوروبا، وبدأ حلفاء واشنطن في الإتحاد يخططون لإنتاج منظومة أمن مستقلة تحمي القارة.
بوتين تكيَّف مع الوقائع الجديدة، ولا يريد العودة الى الوراء بأي ثمن، وهو أكد للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في المباحثات الهاتفية الطويلة التي جرت بينهما عبر منصة "زووم" مطلع تموز/يوليو، أن روسيا ليست مستعدة للعودة الى الوضعية التي كانت قبل 20 شباط/فبراير 2022، ولا يمكنها التسليم ببقاء أوكرانيا مصدر تهديد استراتيجي لبلاده، وموضوع إعادة الأقاليم الشرقية الأربعة الى السيادة الأوكرانية؛ غير واردة، ذلك أن ضمَّهم الى روسيا جاء بموجب استفتاء شفاف لمواطني الاقليم، جرى في 27 أيلول/سبتمبر 2022، وأصبحوا جزءاً من روسيا، ويتمتعون بالحكم الذاتي كما كل الفيدراليات الروسية الأخرى.
استفادت روسيا من الحروب التي جرت في الشرق الأوسط رغم خسارتها لسوريا، فالحروب أربكت أوروبا لأهمية المنطقة بالنسبة لها، ودولها الكبرى؛ لا يمكنها التغافل عما يجري – لا سيما ما يتعلَّق بالملف النووي الإيراني – وهذا التوتر استدرج الرئيس الأميركي الجديد الى مستنقع آخر وجذب جزءاً من اهتمامه، ويستنزف معداته العسكرية المتطورة، خصوصاً الدفاعات الجوية والصواريخ الذكية، والحرب بين إيران وإسرائيل استهلكت كميات هائلة من هذه المخزونات، وواشنطن تدخلت بشكل مباشر في القتال الذي دار على مدى 12 يوماً. والشرق الأوسط وأمن إسرائيل؛ له أولوية عند الرئيس ترامب، لأن المنطقة تُشكل حاجزاً جغرافياً واسعاً بوجه الإندفاعة التجارية والسياسية الصينية نحو العالم، ولأن إسرائيل تقوم بدور "الفزّاعة" العدوانية بوجه كل مَن يحاول التمرُّد على الإرادة الغربية، إضافة للالتزام العقائدي "الواهي" اتجاهها من قبل مؤثرين في الإدارة الأميركية.
روسيا تستثمر في المساحة التي يوفرها الارتباك الأميركي، لاسيما عند حصول نقص في المخزونات الأوكرانية من السلاح والذخيرة، بعد أن أعلنت وزارة الدفاع الأميركية عن توقيف تزويد أوكرانيا بالدفاعات الجوية تحديداً، كي لا يشكل ذلك تهديداً للاحتياط الاستراتيجي الأميركي، خصوصاً بعد أن خسر هذا الاحتياط كميات كبيرة بسبب حرب إسرائيل وإيران، كما قال بيان الوزارة. لكن موسكو تحرص على إبقاء علاقاتها ممتازة مع إدارة ترامب، وهي تتجنَّب إزعاج واشنطن في الملفات الساخنة على المستوى الدولي، ولم تتدخَّل على الشاكلة المؤثرة للدفاع عن إيران بعد تعرضها للهجمات الإسرائيلية والأميركية.
من الواضح أن الرئيس بوتين لم يتجاوب مع المساعي الأميركية والفرنسية لإنهاء الحرب في أوكرانيا، برعم أنه وعد بالعودة إلى المشاركة في جولات أخرى من المباحثات المباشرة بين بلاده وأكرانيا في إسطنبول بتركيا. وقبوله بوقف إطلاق النار يتوقف على نتيجة هذه المباحثات. وفي الورقة التي قدمها ممثليه خلال الجولتين السابقتين؛ تأكيد على عدم التراجع عن الأقاليم الأربعة (دونتيسك وخيرسون ولوغانيسك وزابوروجيا)، إضافة لجزيرة القرم، وهذه المناطق فيها ثروات هائلة، وتقارب مساحتها 119 ألف كيلومتر مربع، كذلك تشترط موسكو عدم دخول كييف في عضوية حلف "الناتو". بينما الجانب الأوكراني يطلب الانسحاب الروسي من هذه الأماكن، والعودة الى الوضع الذي كان قائماً قبل 20 شباط/فبراير 2022.
الوضع الداخلي الأوكراني غير مُريح، والرئيس المنتهية ولايته زيلنسكي يُصارع للبقاء، وخسائر بلاده فاقت كُل تصوُّر، لكن الظروف لا تساعده كما كان ينتظر، ذلك أن المصالح العليا الأميركية تفرض تعاوناً مع روسيا، لإبعادها عن تعزيز تحالفها العسكري مع الصين، ولكي لا تعود الى نشاطها السابق في الشرق الأوسط، وموسكو لديها أصدقاء كُثر في المنطقة العربية، وهي كانت شريكاً فاعل في كل المؤتمرات والحوارات التي جرت بهدف إيجاد حلّ عادل للقضية الفلسطينية، وبإمكانها العودة الى التأثير على ما يجري، مباشرةً، أو عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
الرئيس الأميركي عبَّرَ علناً عن خيبة أمله من موقف الرئيس الروسي الروسي بعد الاتصال السادس بينهما في 3 تموز/يوليو، وأدرك أن حساباته مع روسيا، تختلف عن حساباته مع الهند وباكستان وإيران وإسرائيل والدول العربية.