حجم الخط
مشاركة عبر
لم يكن الحال الذي وصل إليه مجلس النواب العراقي (البرلمان) من الشلل، مفاجئاً، ولم يأتِ اعتباطاً.
بدا وكأن كل شيء كان مخططاً له منذ البداية. فالمجلس الذي يُعتبر أعلى سلطة في العراق ومنه تستمد كل السلطات الاُخرى شرعيتها، مرَّ خلال العامين الماضين بمطبات ومنعطفات حادة أنتجت بالنهاية برلماناً معطلاً وخارجاً عن الخدمة.
كانت البداية في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، عندما أصدرت المحكمة الاتحادية (أو المحكمة الدستورية والتي تعتبر قراراتها باتة وملزمة بحسب الدستور) قراراً مفاجئاً بسحب العضوية من رئيسه السابق محمد الحلبوسي على خلفية اتهامات بالتزوير.
مثّل ذلك القرار الذي نقضته محكمة التمييز العراقية في نيسان/أبريل الماضي، إيذاناً بدخول البرلمان مرحلة الشلل.
استمر شغور المنصب عاماً كاملاً، وهو الذي يُعتبر بحسب العرف السياسي لعراق ما بعد العام 2003، من حصة العرب السنة. ورغم أن البرلمان نجح في انتخاب رئيسٍ جديدٍ بعد حالة مخاض شديدة، إلا انه لم يلتئم بعدها إلا بجلسات معدودة نجح خلالها بتشريع ثلاثة قوانين جدلية بسلة واحدة، من بينها قانون العفو. تطور تسبب كثيراً بتأزيم المشهد وساهم بصب الزيت على النار بشأن وضع البرلمان والحالة التي يمر بها.
حاول رئيس البرلمان الجديد محمود المشهداني، الذي تم انتخابه في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2024، تنشيط البرلمان واستعادة دوره في المشهد السياسي العراقي. وعلى الرغم من ما يمتلكه الرجل من خبرة ودراية وعلاقات واسعة تؤهله لشغل هذا المنصب، فهو الذي ترأس اول برلمان منتخب في العراق بعد العام 2003 وانتخب بعدها نائباً في كل دورة برلمانية، إلا أن محاولاته لم يكتب لها النجاح في استعادة البرلمان دوره الحقيقي كما تمنى الرجل، داخلياً على الأقل.
وعلى الرغم من كل هذه المساعي، لم يسلم المشهداني من سهام النقد، فقد حمَلت أطراف سياسية وبرلمانية الرجل مسؤولية هذا الإخفاق.
سعت رئاسة المجلس (الرئيس ونائباه) في أكثر من مرة خلال الفترة الماضية لعقد جلسة. لكنها فشلت بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني لعقد الجلسة (165 نائباً).
شهادة المشهداني
في حديث مع عدد من النخب قبل أسابيع قليلة، عبّر المشهداني عن امتعاضه من تصرف قيادات وقوى سياسية وازنة تحوز كتلها البرلمانية على عدد كبير من المقاعد، قال إن هذه القيادات تدعوا وتشجع نوابها على عدم حضور الجلسات.
وفي حديثه الذي لم تنقصه الصراحة، حاول المشهداني تلخيص ما يجري داخل البرلمان قائلاً إن أهم أسباب عدم عقد الجلسة يتمثل بوجود قانونين ينتظران التصويت عليهما، وهما مسودة قانون هيكلية الحشد الشعبي، وتعديل قانون الانتخابات البرلمانية. وقال إن هناك فريقين متصارعين داخل البرلمان، كل طرف يؤيد تمرير أحد هذين القانونين ويسعى بقوة إلى تشريعه، مقابل إفشال أي مسعى لتمرير القانون الأخر.
يقول مطلعون إن الامر لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه بكثير. ويؤكد هولاء أن هناك قوى نافذة ليست داخلية فحسب بل خارجية أيضاً، تتماهى مصالحها مع تعطيل البرلمان وإخراجه عن الخدمة، وأن السبب في هذا هو إصرار كتل برلمانية على تمرير قانون هيكلية الحشد الشعبي، وهو ما لا يتوافق ومصالح هذه القوى النافذة.
دعوات لاستئناف عمل البرلمان
وإزاء هذه التطورات، حمّل النائب ماجد شنكالي، القيادي في الحزب "الديمقراطي الكردستاني" ورئيس لجنة الصحة البرلمانية، جميع الأطراف السياسية مسؤولية الحال الذي انتهى إليه البرلمان، وقال إن "البرلمان بوصفه أعلى سلطة في البلاد أضاع بوصلته فأصبح يُقاد بدلاً من أن يقود".
وفي محاولة أخيرة، دعت رئاسة البرلمان قبل أيام القوى السياسية إلى ضرورة توحيد المواقف من أجل عقد جلسة لمناقشة ما وصفتها الاستحقاقات المرتبطة بالانتخابات البرلمانية المقبلة والمتوقع إجراؤها منتصف تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. وقالت رئاسة البرلمان في بيان، إن الحاجة باتت ملحة أكثر من أي وقت مضى لعقد الجلسة "لتهيئة البيئة التشريعية والسياسية الملائمة لضمان إجراء انتخابات نزيهة وشفافة"، في إشارة وصفت بأنها دعوة لحسم الجدل بشأن طبيعة وشكل القانون الذي ستجري بموجبه الانتخابات البرلمانية المقبلة.
كما يتعين على البرلمان التصويت أيضاً على تعديل قانون الموازنة الاتحادية للعام الجاري، خصوصاً ما يتعلق بجداول الصرف حيث عمدت الحكومة إلى إجراء تعديلات على هذه الجداول بخلاف تلك التي تضمنها أصل القانون.
الصراع بين السلطة التنفيذية والتشريعية
عبّر المشهداني في أكثر من مناسبة ، عن أنه لن يسمح بتحويل البرلمان الى أداة لإضعاف السلطة التنفيذية، مؤكداً أن المسؤولية الوطنية تتطلب منه في هذا التوقيت الحرج الذي تمر به البلاد، العمل من أجل أن تكون السلطة التشريعية مكملة وداعمة لعمل السلطة التنفيذية.
وإزاء هذا الموقف، فان هناك اعتقاد واسع لدى العديد من النخب مفاده أن الهدف من تعطيل البرلمان هو قطع الطريق أمام أي موقف يمكن أن يتبلور في أي لحظة نتيجة لمناكفات سياسية ذات مصالح ضيقة، قد يتسبب بعرقلة عمل الحكومة، خصوصاً تجاه التزامات خارجية مُلحة أملتها ظروف حرجة تمر بها المنطقة بشكل عام. ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى الاعتقاد بأن البرلمان وبغض النظر عن موقف رئيسه ونائبيه الداعمين للحكومة، إلا أن تحديد مساراته واتجاهاته لا يمكن التبؤ بها، فهؤلاء لن يتمكنوا من الوقوف ضد أي مسعى يحوز على الأغلبية البرلمانية قد يفضي بالنهاية إلى بلورة موقف يحرج الحكومة خارجياً. ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن الوضع الداخلي الذي يمر به العراق وامتداداته بالتحولات التي تشهدها المنطقة والعالم، أنتج وضعاً قلقاً جداً ومحرجاً وبات يتطلب موقفاً عراقياً موحداً لتجاوز هذه المرحلة حتى وإن كان الثمن هو تعطيل عمل البرلمان بشكل مؤقت.
حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة
كانت دعوات حل البرلمان، خصوصاً خلال فترة شغور منصب الرئيس، مسموعة وعالية. واستمرت هذه الدعوات بشكل أو بأخر حتى بعد انتخاب المشهداني. لكن هذه الدعوات وما رافقها من مطالبات بإجراء انتخابات مبكرة، تراجعت كثيراً، خصوصاً مع مرور الوقت ودخول البرلمان مرحلة العد التنازلي وقرب انتهاء عمره الدستوري.
وبعيداً عن هذه الدعوات وما تحمله من مواقف سياسية ضاغطة وأحيانا مكشوفة، فإن خيارات عقد جلسة للبرلمان أو أكثر، باتت حتمية لحسم الموقف والجدل بشأن طبيعة القانون الذي ستجري بموجبه الانتخابات البرلمانية المقبلة، إضافة إلى التصويت على التعديلات التي أجرتها الحكومة على قانون الموازنة الاتحادية للعام الجاري، خصوصاً ما يتعلق منها بجداول الصرف.
وما يزيد من تعقيد الموقف هو دخول قوى سياسية مهمة على خط تعطيل البرلمان. فهذه القوى تسعى إلى الإبقاء على قانون الانتخابات الحالي الذي جرت بموجبه الانتخابات البلدية الأخيرة، بدون تعديل، ليكون هو القانون الذي تجري بموجبه الانتخابات البرلمانية. ويعتقد كثيرون أن هذه القوى باتت على قناعة تامة بأن الحل الوحيد لتحقيق هدفها هو الحيلولة دون تمكن البرلمان من عقد جلساته، لأن أي تعديل سيكون بحاجة إلى نيل ثقة البرلمان.
يعكس هذا المشهد بكل تقاطعاته وتفرعاته، حقيقة أن الوضع الذي يعيشه البرلمان حالياً يظهر بشكل أو بأخر الأزمة البنيوية التي لا تزال تعاني منها الحياة السياسية في العراق، والتي أنتجت واقعاً شاذاً تمثل بسعي قوى سياسية لتعطيل عمل البرلمان لأجل استخدام هذا التعطيل كأدوات للضغط وأحيانا للابتزاز السياسي، وهو تطور لا يختلف كثيرون على وصفه بأنه بات يهدد بتآكل ما تبقى من الثقة الشعبية في المؤسسات الديمقراطية العراقية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها