newsأسرار المدن

فلسطين كقضية حق

محمد غملوش الجمعة 2025/05/16
غزة جباليا.jpg
Getty
حجم الخط
مشاركة عبر
لا يعلم أحد على وجه اليقين ما ستؤول إليه القضية الفلسطينية في ظل التحولات المتسارعة التي تعصف بالمنطقة. لكن ما بات جلياً أن الشرق الأوسط يشهد إعادة تشكيل كبرى، تتقاطع خطوطها مع ما لطالما صرّح به بنيامين نتنياهو عن "شرق أوسط جديد" تقوده إسرائيل سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
ما نراه ليس مشهداً عابراً، بل تحقّق تدريجي لرؤية استراتيجية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية من جذورها، أو على الأقل إخراجها من دائرة الاهتمام العربي الرسمي. وهذا واقع مرّ، يذكّرنا ببيت شوقي: "إن الذي جعل الحقيقة علقماً…".

اليوم، لم تعد القضية الفلسطينية تقف فقط على حافة الطمس الرمزي، بل تعاني من محاولات دفن ممنهجة على المستوى السياسي العربي والدولي. ما أعلنته إدارة ترامب أواخر عام 2020، عبر اتفاقيات "أبراهام"، لم يكن مجرّد إعلان تطبيع، بل مشروع تقويض شامل لما تبقّى من تضامن عربي مع فلسطين.
إن مراجعة تاريخ التطبيع العربي مع إسرائيل تكشف الكثير. منذ كامب ديفيد عام 1978، الذي جاء عقب حرب، إلى وادي عربة، ثم أوسلو، وصولاً إلى موجة اتفاقيات "أبراهام"، تبيّن أن هذه الاتفاقيات لم تُفضِ إلى أيّ تقدم حقيقي للفلسطينيين، لا على صعيد الدولة، ولا الحقوق، ولا حتى وقف الاستيطان. على العكس، تحوّلت إلى أدوات لتحييد الدول العربية وإعادة هندسة أولوياتها، بحيث تصبح العلاقات مع إسرائيل مصلحة وطنية، بينما تُترك غزة تُحاصَر ويُذبح شعبها أمام الكاميرات.

الحرب على غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم تُعد تعريف الصراع، بل أظهرت حقيقته كما هي: لم يعد صراعاً "عربياً-إسرائيلياً"، بل مواجهة بين فصائل مقاومة ترفض التسوية من جهة، ودولة احتلال مدعومة بغطاء دولي شامل – بما فيه دعم مباشر أو صامت من دول عربية – من جهة أخرى. لا بل أصبح هناك ميل لدى بعض الدول العربية للترويج لفكرة "الإرهاب الفلسطيني" والتي اشترط ترمب على الرئيس السوري أحمد الشرع طرده من سوريا خلال لقائهما في الرياض.
في هذه اللحظة، لم يعد ممكناً الحديث عن موقف عربي موحّد، ولا حتى عن تضامن إنساني فعال. لحظة العجز الرسمي عن إيصال قارورة ماء واحدة إلى غزة في ذروة المجاعة، كانت أكثر بلاغة من كل الخطب. لحظة سياسية تؤرخ لموت ما كان يُسمّى بـ"الإجماع العربي حول فلسطين".

اتفاقيات "أبراهام" لم تكن تطبيعاً بقدر ما كانت اصطفافاً استراتيجياً جديداً. لم تعد إسرائيل العدوّ الظاهر، بل باتت شريكاً في المشاريع الاقتصادية والتقنية وحتى الأمنية لبعض العواصم. هذه تحوّلات جوهرية في البنية السياسية للمنطقة، لا يمكن النظر إليها بوصفها عابرة أو ظرفية.
أما إيران التي تبنّت خطاباً داعماً للمقاومة، فهي بدورها تخوض حساباتها الدقيقة. بين سعيها لحماية مشروعها النووي وتجنب مواجهة عسكرية كبرى مع الولايات المتحدة، تبدو طهران في موقع تفاوضي سيحمل بالضرورة تنازلات، وإن كانت مؤقتة أو موضعية.

على الرغم من كل ذلك، فإن المشهد في غزة اليوم يتجاوز التحليل السياسي، ليدخل حيّز الجرائم المتكررة في وضح النهار: تدمير ممنهج، قتل جماعي، حصار وتجويع. وإن من مكاره الدهر أن تُسمى هذه حرباً بين طرفين بل هي أقرب إلى إبادة طرفٍ للآخر دون حسيب ولا رقيب. 
لا يعني كل ذلك نهاية القضية الفلسطينية كحقّ أو كرمزية، لكنه يعني أنها دخلت مرحلة حرجة تتطلب مراجعة كبرى: لم تعد فلسطين أولوية في النظام الرسمي العربي، لكنها قد تبقى أولوية في ضمير الشعوب، وفي الفضاءات غير الرسمية، وفي معادلات المقاومة أو ما بقي منها.
ربما هزّت هذه الحرب أركان النظام العالمي وأيقظته على واقع مستتر بقناع "القانون الدولي": أميركا تحدد من المجرم لا القانون. ولن يجدي نفعاً التذكير بالازدواجية الواضحة في التعامل مع روسيا وإسرائيل في حربيهما. تبقى قضيةُ فلسطين قضية حقّ أصيل في وجه منظومة عالمية لعلها أصبحت ترى في وجود الفلسطيني عبئاً على "الاستقرار". ورغم اختلال موازين القوى، فإن استمرار هذا الشعب في الدفاع عن وجوده، حتى وهو جائع ومحاصر، هو وحده ما يبقي القضية حيّة إذ لا يقدر الرصاص على قتل المبدأ مهما اشتد أزيزه.

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث