حجم الخط
مشاركة عبر
في مشاهد متكرّرة تتنقّل بين جرمانا وصحنايا ومناطق أخرى من تخوم العاصمة السورية إلى محافظاتها البعيدة، لا نواجه مجرد اضطرابات أمنية معزولة، بل نلامس مجدداً ذلك الفشل البنيوي العميق في تشكُّل الدولة السورية كإطار جامع، لا كمجرد سلطة فوقية تفرض نفسها بقوة السلاح والولاء.
فحين تبدأ التوترات بالتكثف حول خطوط طائفية، وتتكرّر المواجهات بين فصائل تُوصف بـ"المنفلتة" وأجهزة أمنية يُفترض بها أن تكون مؤسسية، يصبح من المشروع أن نتساءل: هل نحن أمام دولة تنهار، أم سلطة لم تتشكّل أصلًا على قاعدة المواطنة؟
ما يجري ليس جديداً في جوهره، بل هو استمرار لصدام بين منظومة حكم لم تتمكن من الخروج من دائرة التعاطي مع المجتمع السوري بوصفه خليطاً من "مكوّنات"، لا بوصفه شعباً موحّد الإرادة والتطلعات. وفشلت السلطة في عزل أبناء الساحل عن فلول نظام الأسد، عبر الحوار والإنصات لتاريخ من التوجس المتبادل والحساسية الطائفية. وتعاملت مع الحالة الساحلية بذات الأدوات الأمنية القديمة، وافتقرت إلى مقاربة سياسية ناضجة تعترف بالذاكرة الجمعية للسوريين، وبالارتباك الذي خلّفه سقوط النظام في بيئة ربطها به وجودياً. وتكشّف فشل السلطة في بناء قنوات تواصل حقيقية، تتجاوز منطق الإقصاء والثأر إلى أفق وطني مشترك.
واليوم، في عمق هذا الانفلات الأمني، يتكرّر المشهد على نحو أكثر بؤساً. مجموعات مسلّحة تتنازع النفوذ، وسلطة مركزية تدّعي الدمج والتوحيد، لكنها تعجز عن إنتاج منظومة دفاع حقيقية أو هرمية أمنية متماسكة.
في ظل هذه المعادلة المعطوبة، تُطرح المشاركة الوطنية بوصفها توزيعاً طائفياً للمناصب لا جدلاً سياسياً حول مستقبل البلاد. يُعيَّن الوزير لكونه سنياً أو مسيحياً أو علوياً أو كردياً، لا لأنه يعبّر عن تيار سياسي أو رؤية اقتصادية أو منظومة قانونية. تُستدعى الطوائف إلى المسرح للزينة، ولمنح شرعية زائفة لحكم لم يغادر بعد منطق الغلبة. غير أن المشاركة، كما تفهمها التجارب الديمقراطية الحديثة، لا تتحقق من خلال المشاركة الشكلية، بل عبر التعدد الفكري والبرامجي، والتوازن بين السلطات، والقدرة على التفاوض الدستوري حول معنى الدولة نفسها. وما لم تُنقل سوريا من حالة "التمثيل الطائفي" إلى "التداول السياسي"، فستبقى بنية السلطة فيها قابلة للانفجار من داخلها.
ويُفهم في هذا السياق التغير في الموقف التاريخي للدروز السوريين بوصفه تعبيراً عن وعي وطني مبكر. فالطائفة التي رفض أبناؤها، بأغلبية واسعة، الالتحاق بجيش الاسد الذي كان يُوجَّه لقتل السوريين، لم تكن في حالة انعزال بل في حالة رفض، لا انكفاء. وهذا الرفض لم يكن انتقاصاً من الوطن بل دفاعاً عنه، ورفضاً لتحويله إلى ساحة تصفية حسابات. وعليه، فإن الخطاب الأخير للشيخ حكمت الهجري، والذي لمح فيه إلى إمكانية التعاطي مع إسرائيل، بدا خروجاً عن هذا الإرث، ومجافاة لذاكرة تاريخية ارتبط فيها الدروز بالمشروع الوطني لا بالمحاور.
وإذا كان الداخل السوري متآكلاً من فراغ السياسة، فإن الإقليم لا ينتظر. فالصراع المتصاعد بين تركيا وإسرائيل — المُغذّى بتقاطعات معقدة داخل الأرض السورية — يعيد إنتاج البلاد كساحة لا ككيان.
من هنا، فإن أي تصور لمستقبل الدولة السورية دون حوار حقيقي وعدالة انتقالية شاملة هو وهم مؤجّل. لا يمكن عبور هذا الجسر المتداعي نحو وطن موحّد دون الاعتراف بالضحايا، ومحاسبة الجناة، وإعادة صياغة العقد الوطني على أسس جديدة. العدالة الانتقالية ليست مكرمة أخلاقية، بل أداة سياسية لتفكيك الأحقاد، وكسر دوائر الثأر، وبناء مجتمع سياسي يحتكم إلى القانون لا إلى السلاح. هي وحدها قادرة على تجنيب البلاد انزلاقاً جديداً إلى حرب أهلية طائفية تُلبس شعارات الأمن لبوس الطائفة، وشعارات المقاومة لبوس التصفيات.
قد تكون التجربة الإسبانية في مرحلة ما بعد فرانكو الأقرب إلى ما تحتاجه سوريا اليوم. دولة خرجت من ظل الديكتاتور لا عبر الانتقام، بل عبر "نسيان متفق عليه" أُسِّس على الاعتراف، والإصلاح، والعزل السياسي لمنظومة القمع، لا عبر محو الذاكرة. هذا النموذج، رغم محدودياته، أتاح للهوية الوطنية أن تتشكّل مجدداً بوصفها اختياراً مشتركاً، لا فرضاً فوقياً. وربما كانت تلك لحظة الحقيقة: أن تبني وطناً لا يعني أن تنتصر، بل أن تتنازل عن وهم النصر لصالح عقد جديد يتسع للكل.
ما تعيشه سوريا اليوم ليس شتاتاً اجتماعياً فحسب، بل ضياع لفكرة الدولة نفسها. وطن بلا مشروع، وسلطة بلا شرعية جامعة، ومجتمع ممزّق بين ذاكرته وأشباح مستقبله. ووسط هذا الخراب، تبقى الأسئلة الكبرى معلّقة: من يحكم؟ ولماذا؟ ولأي غاية؟ وإلى متى يمكن للرماد أن يتكئ على ذاته قبل أن ينهار بالكامل؟
فحين تبدأ التوترات بالتكثف حول خطوط طائفية، وتتكرّر المواجهات بين فصائل تُوصف بـ"المنفلتة" وأجهزة أمنية يُفترض بها أن تكون مؤسسية، يصبح من المشروع أن نتساءل: هل نحن أمام دولة تنهار، أم سلطة لم تتشكّل أصلًا على قاعدة المواطنة؟
ما يجري ليس جديداً في جوهره، بل هو استمرار لصدام بين منظومة حكم لم تتمكن من الخروج من دائرة التعاطي مع المجتمع السوري بوصفه خليطاً من "مكوّنات"، لا بوصفه شعباً موحّد الإرادة والتطلعات. وفشلت السلطة في عزل أبناء الساحل عن فلول نظام الأسد، عبر الحوار والإنصات لتاريخ من التوجس المتبادل والحساسية الطائفية. وتعاملت مع الحالة الساحلية بذات الأدوات الأمنية القديمة، وافتقرت إلى مقاربة سياسية ناضجة تعترف بالذاكرة الجمعية للسوريين، وبالارتباك الذي خلّفه سقوط النظام في بيئة ربطها به وجودياً. وتكشّف فشل السلطة في بناء قنوات تواصل حقيقية، تتجاوز منطق الإقصاء والثأر إلى أفق وطني مشترك.
واليوم، في عمق هذا الانفلات الأمني، يتكرّر المشهد على نحو أكثر بؤساً. مجموعات مسلّحة تتنازع النفوذ، وسلطة مركزية تدّعي الدمج والتوحيد، لكنها تعجز عن إنتاج منظومة دفاع حقيقية أو هرمية أمنية متماسكة.
في ظل هذه المعادلة المعطوبة، تُطرح المشاركة الوطنية بوصفها توزيعاً طائفياً للمناصب لا جدلاً سياسياً حول مستقبل البلاد. يُعيَّن الوزير لكونه سنياً أو مسيحياً أو علوياً أو كردياً، لا لأنه يعبّر عن تيار سياسي أو رؤية اقتصادية أو منظومة قانونية. تُستدعى الطوائف إلى المسرح للزينة، ولمنح شرعية زائفة لحكم لم يغادر بعد منطق الغلبة. غير أن المشاركة، كما تفهمها التجارب الديمقراطية الحديثة، لا تتحقق من خلال المشاركة الشكلية، بل عبر التعدد الفكري والبرامجي، والتوازن بين السلطات، والقدرة على التفاوض الدستوري حول معنى الدولة نفسها. وما لم تُنقل سوريا من حالة "التمثيل الطائفي" إلى "التداول السياسي"، فستبقى بنية السلطة فيها قابلة للانفجار من داخلها.
ويُفهم في هذا السياق التغير في الموقف التاريخي للدروز السوريين بوصفه تعبيراً عن وعي وطني مبكر. فالطائفة التي رفض أبناؤها، بأغلبية واسعة، الالتحاق بجيش الاسد الذي كان يُوجَّه لقتل السوريين، لم تكن في حالة انعزال بل في حالة رفض، لا انكفاء. وهذا الرفض لم يكن انتقاصاً من الوطن بل دفاعاً عنه، ورفضاً لتحويله إلى ساحة تصفية حسابات. وعليه، فإن الخطاب الأخير للشيخ حكمت الهجري، والذي لمح فيه إلى إمكانية التعاطي مع إسرائيل، بدا خروجاً عن هذا الإرث، ومجافاة لذاكرة تاريخية ارتبط فيها الدروز بالمشروع الوطني لا بالمحاور.
وإذا كان الداخل السوري متآكلاً من فراغ السياسة، فإن الإقليم لا ينتظر. فالصراع المتصاعد بين تركيا وإسرائيل — المُغذّى بتقاطعات معقدة داخل الأرض السورية — يعيد إنتاج البلاد كساحة لا ككيان.
من هنا، فإن أي تصور لمستقبل الدولة السورية دون حوار حقيقي وعدالة انتقالية شاملة هو وهم مؤجّل. لا يمكن عبور هذا الجسر المتداعي نحو وطن موحّد دون الاعتراف بالضحايا، ومحاسبة الجناة، وإعادة صياغة العقد الوطني على أسس جديدة. العدالة الانتقالية ليست مكرمة أخلاقية، بل أداة سياسية لتفكيك الأحقاد، وكسر دوائر الثأر، وبناء مجتمع سياسي يحتكم إلى القانون لا إلى السلاح. هي وحدها قادرة على تجنيب البلاد انزلاقاً جديداً إلى حرب أهلية طائفية تُلبس شعارات الأمن لبوس الطائفة، وشعارات المقاومة لبوس التصفيات.
قد تكون التجربة الإسبانية في مرحلة ما بعد فرانكو الأقرب إلى ما تحتاجه سوريا اليوم. دولة خرجت من ظل الديكتاتور لا عبر الانتقام، بل عبر "نسيان متفق عليه" أُسِّس على الاعتراف، والإصلاح، والعزل السياسي لمنظومة القمع، لا عبر محو الذاكرة. هذا النموذج، رغم محدودياته، أتاح للهوية الوطنية أن تتشكّل مجدداً بوصفها اختياراً مشتركاً، لا فرضاً فوقياً. وربما كانت تلك لحظة الحقيقة: أن تبني وطناً لا يعني أن تنتصر، بل أن تتنازل عن وهم النصر لصالح عقد جديد يتسع للكل.
ما تعيشه سوريا اليوم ليس شتاتاً اجتماعياً فحسب، بل ضياع لفكرة الدولة نفسها. وطن بلا مشروع، وسلطة بلا شرعية جامعة، ومجتمع ممزّق بين ذاكرته وأشباح مستقبله. ووسط هذا الخراب، تبقى الأسئلة الكبرى معلّقة: من يحكم؟ ولماذا؟ ولأي غاية؟ وإلى متى يمكن للرماد أن يتكئ على ذاته قبل أن ينهار بالكامل؟

التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها